
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
ثالثاً، الأزمة المعرفية:
يقول جاكلين روس صاحب كتاب مغامرة الفكر الأوربي[1] :(من سنة 1950 وحتى يومنا هذا عرفت الثقافة والأفكار الأوربية انقلابات متسارعة غيّر العصر الجديد في مجال العلم والتقنية ، لقد تسارعت التغيرات التي حصلت)
إذن هي ليست مجرد تحولات بل انقلابات حد وصف الكاتب الغربي ؛ هذه السرعة والقفزات ربما تحتاج إلى مايناسبها من التجاوب السريع وتجاوز التقليدية في المتابعة للمشهد الغربي.
وكل هذا أدى إلى تدفق كبير للبحوث والمؤلفات، وإلى حركة دؤوبه في مجال المؤتمرات وفي بروز أسماء مختصين وفلاسفة جدد وفي مؤلفات وكتب لا تتوقف، وصناعة مفاهيم جديدة حتى قيل في تبنى مواقف جديده من بعض الظواهر الحديثة، فمثلا :
برزت الدعوة لإعادة العلاقة مع الدين في الأربعين سنة الماضية في المشهد الغربي فيما يعرف بظاهرة مابعد العلمانية، ويتبنى هذه الدعوة عدد من الفلاسفة الغربيين مثل : هابرماس وخوزيه كازانوفا وتشارلز تايلور..
ومضمون هذه الدعوة هو السماح للدين بالعودة للمجال العام ،وتأتي هذه الدعوة بعد حزمة من المفاسد الأخلاقية والإجتماعية والنفسية التي سادت في المجتمع الغربي.
في كتابه ( تحطيم العقل كيف ظلت الفلسفة الطريق ) يتحدث جورج لوكاكش عن تطور التيارات اللاعقلانية بعد الحرب العالمية الثانية وظهور فلاسفة ورموز يتبنوها واهتزاز مكانة العقلانية الغربية بعد مفاسدها الظاهرة في الغرب ، ويقول صاحب كتاب ( تشكل العقل الحديث) تحت عنوان : نزعة العداء للعقل :
( ومع مطلع القرن العشرين بدأت بعض أفكار النزعة المعادية للعقل في الرواج وسط المثقفين ومن ثم للتسرب للوعي الشعبي)[3]
وجرت مساجلات بين التيار العقلاني وخصومه حتى ظهرت عيوبه وبرزت عثراته ومع ذلك مازال بعض المهووسين بالغرب يتمسك بالعقلانية الغربية.
وتكمن هذه الأزمة المعرفية للمصلح والمثقف والمربي في استصحاب المصادر التقليدية في متابعة المشهد الغربي الذي يمور بالتحولات دون محاولة الإطلالة على أبحاث ومنصات متجددة تكشف حجم التغير الحاصل، وإعطاء دقة في ( الوصف).
فالاكتفاء بتلك المصادر التقليديه أو المحدودة يذهب بالقارئ إلى آفه (التصور الناقص).
عبد الوهاب المسيري عندما تناول العقل الغربي بالتشريح في وقته، كان يفعل ذلك بناء على استثماره الأمثل لمهاره (المعايشة)، تلك المعايشة التي استمرت سنوات طويله له في المجتمع الغربي بحكم عمله كمحاضر في الجامعات الأمريكية، استطاع المسيري من خلال دقة الملاحظة والتفطن لحقيقة الأحداث التي عايشها وامتزج بها فكره أن ينهض برؤية كاشفة للمشهد المعاصر، وخاصة الأمريكي عبر مؤلفاته.
حتى ارتقى المسيري إلى مرحلة تجاوزت النقد الاعتيادي فأصبح بارعًا في صنع وصياغة مفاهيم جديدة تلبي الاحتياج المعرفي في حين لم تكن بعض المفاهيم السابقة تفي بالغرض في التعبير عن حجم هذه التحولات، يقول المسيري في كتابه الصهيونية واليهودية:
(ويجب أن يلاحظ الباحث التحولات التي تطرأ على الواقع ،وعدم التمسك بالرؤية السائدة فالمصطلح والمفهوم الكامن وراءه يُنحت في لحظة تاريخية معينة نتيجة لواقع معين ولكن الأسباب تتغير والواقع يتبدل لذا فالمصطلح قد يفقد دلالته ويكتسب دلالة جديدة).
وربما كان من أسباب هذه المعرفة المعقدة التداخل الكبير بين العلوم في هذه العقود المتأخرة،
فتداخلت العلوم الإنسانية كعلم النفس والاجتماع مع العلوم التجريبية كالفيزياء، فأصبحت الفيزياء هي أم العلوم المعاصرة وهي المؤثر بنظرياتها في ماحولها،فتأثرت المباحث الفكرية بهذه النظريات كنسبية اينشتاين وتطورية داروين وغيرها.
رابعًا: أزمة المفاهيم:
التشوهات التي برزت على جسد الحضارة الغربية، تسللت إلى كثير من المفاهيم مثل (العلم – الدين – الإنسان – التاريخ – العقل – المنهج) وغيرها كثير.
فباتت أمامنا مصفوفة من المفاهيم تحت شراك التصور الغربي و خاصة المرجعية المادية ،وبطبيعة الحال فالوشائح بين التصور النهائي وبين المفاهيم وثيقة جدًا – فالفيلسوف المادي سيناضل لبث رؤيته الكونية – ولن يتوان في حقن المفاهيم التي يستخدمها بذات الرؤية الكلية التي يتبناها، فالمفاهيم هي جسر التواصل مع الآخر.
لذلك من الوعي أن يستبصر القارئ ولا يذعن لسطوة المفاهيم المتأثرة بالتصور الغربي ولا يتساهل في تقبلها والنظر إلى الحقائق من خلالها.
يقول سيف الدين عبدالفتاح من بحث (المفاهيم – الأهمية والضرورة)[4]
:(المفاهيم تُعد من أعظم مكونات البنية الفكرية الحاكمة للمنظومة المعرفية التطبيقية، بما تقوم به من دور محوري وحيوي في البناء العقدي والمعرفي ،وبما تستبطن من ذاكرة حضارية تاريخيه، توجب العناية وبذل كل رعاية، بلوغاً للغاية واستقامة وسدادًا، كون ذلك يمثل مطلبا تستلزمه صحه الإدراك والوعي والمعتقد والتصور السليم).
لذلك العقل اليقظ يتحاشى أن يقع في فخ المفاهيم الملتبسة، وهنالك مرتبة أعلى وهي محاولة تفكيك المفاهيم ( المتلوثة) وعزل الدلالات الفاسدة عنها، والتي ربما تخفى على عين اليقظ، وهناك مرتبة أعلى وهي صناعة مفاهيم معاصرة تمتاز بالنقاء والمرجعية الإسلامية، وتقوم بدورها في السجال كما يكثر ذلك مع عبد الوهاب المسيري وطه عبد الرحمن.
يقول طه عبدالرحمن في كتابه “الحق الإسلامي” ص 302في سياق حديثه عن عدد من المفاهيم الملتبسة كمفهوم الموضوعية والعلمانية: ( المراد الظاهر بالموضوعية هو فصل الظواهر المدروسة عن تأثير العوامل الذاتية ولكن القصد الحقيقي هو فصل هذه الظواهر عن القيم الروحية ،والمراد الظاهر بالعلمانية -حسب دعوى دعاة العلمانية-هو فصل الدولة السياسية عن ظلم رجال الدين ، لكن القصد الحقيقي هو فصل القرارات التشريعية عن الأحكام الدينية) .
خامسًا: أزمة البرهنة والاستدلال
العقيدة الإسلامية تقوم على البرهنة والدليل ، والوحي يحوي حشدا من الأدلة المتكاثرة على اعتبار مقام العقل والنظر والتفكير ونبذ التقليد في العقائد، بل ذهب بعض أهل العلم الى حرمة التقليد في العقائد، قال تعالى:
(قل هاتوا برهانكم ) فقد ذُكرت في عدة مواضع من القرآن في سور البقرة والنمل والأنبياء.
لكن في التصور الغربي ضاق معنى الإيمان وانحرفت دلالته حتى عُدت مفردة الإيمان تدل على التسليم المحض بلا دليل أو برهان خلاف التصور الإسلامي .
ففي الموسوعة الفلسفية في تعريف الإيمان :(أنه إدراك شي ما على أنه صادق دون برهان)
وكذلك نقل الفاروقي في كتابه التوحيد قريبا من هذا المعنى[5]
والمنهج العلمي الرصين يقتضي درجة عالية من إتقان عرض البراهين والاعتناء بصياغتهم سواء في حاله تقديم الحق الذي معك أو في نقض الباطل الذي أمامك ،وهناك مهمات لابد منها في تعزيز مقام البرهنة في الدراسات المتعلقة بالشأن الغربي:
1- أن تستوعب الأنواع المختلفة من البراهين سواء النقلية أو العقلية أو العلمية عند الإدلاء بحزمة البراهين .
2- ترتيب البراهين يبدأ بالأقوى ثم الأدنى حسب القوة والمتانة والوضوح وقرب الدلالة.
3- لا تخلو كثير من السجالات المتعلقة بالشأن الغربي من الاعتماد على الجانب الاحصائي ،ولذا لابد من استيعاب هذا النوع من الأدلة وتوظيفها في بيان ضعف ووهاء الفكر الغربي مع بيان المصدر والتاريخ، كون هذه التقارير الإحصائية تنشر سنويا وتختلف من فترة لفترة.
4- أن يحشد أدلته في بادئ الأمر نحو أصل الانحراف ويتولاه بالهدم والنقض، لا أن يحرق جهده في الفروع والهوامش.
5- أن يستثمر الردود بين التيارات الغربية في ردها على بعض البعض بما يجده من حق ملائم ، فعلى سبيل المثال هناك ردود بعض التيارات الدينية المحافظة على شبهات الملاحدة الغربيين تحوي بعض الحق الذي لامانع من استثماره وتوظيفه.
[1] مغامرة الفكر الغربي 396
[2] انظر كتاب: الأديان العامة في العالم الحديث خوسيه كازنوفا
[3] انظر : 319
[4] انظر الجزء الأول ص 54
[5] التوحيد الفاروقي 97
باحث دكتوراه في العقيدة والفكر المعاصر
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
من أهم مهمّات (الأسرة) أن تكون على مستوىً من الألفة والاجتماع والتحصن والقوة، ما يسهم في صناعة الجيل وتأهيله لإعمار الأرض على الوجه الذي أمر...
إننا اليوم أحوج إلى تثوير هذا النص النفيس في نفوسنا بعد أن أضحت معاينة الخلق لأحوال الإنسان وأعماله وأذواقه مشرعة لكل أحد ، وهذا يزيد...