معالم وإشارات نحو قراءة واعية

النفوس الكبيرة تُشغل دوما بالأشياء الكبيرة، وغير خافٍ على أهل العقول أنّ من القضايا الكبرى في حياة الأمم قضيّة العلم والتعلم، وأنّ القراءة هي بوابتها الواسعة، ومِهادُها اللاحب، وأنّ مِنْ تلك المفردة المقدسة “اقرأ” بدأت معارف أعظم أمة في تاريخ البشرية.

وهنيئًا للمرء في هذه العصر الصاخب إن كانت القراءة وما يكتب حولها مما يأخذ من تفكيره، وأزعم أنك تتفق معي أن كثيرً من الشباب هم على الشاكلة لكنهم في الشأن العملي تقع منهم الأخطاء التي تقلّل استفادتهم، ويصيبهم شيء من الركود، وتتوارى أحيانا من أمامهم المنهجية الفعالة.

وفي هذه الكتابة محاولةٌ جادَّة لِلَمّ شتات ما كُتب حول منهجيات القراءة الواعية ومعالمها، وهو كثير كثير يملأ رفوف المكتبات، وهنا محاولة لعصرها أو قل: كبسلتها ليسهل على الراغب قراءتها وتأملها غير مرة.

هذه المعالم والأفكار هي في شأن القراءة عمومًا في سائر المجالات، ولكنك واجدها ألصق بالعلوم الشرعية والنظرية وما دار في فلكهما من علوم الآلة، فتنبه لذلك.

مع الأفضل دوما:
العمر قصير، والسوق الثقافي مليء بالغث والسمين، وعليه فلا مناص من الانتقاء والانتخاب، ولا بدّ لمن رام الترقي الاقتصار على الأجود من المدوّنات، بل عليه أن يحاول أن تكون تلك المدونات هي الأفضل في بابها، وأولئك المؤلفون هم أبرز من كتب ودوّن وحرر.. والاستشارة باب كبير للإفادة في معرفة جيد الكتب وتجاوز خسارة الزمن والجهد والمال.

على أنه من المتقرِّرِ أنّ أيّ شيء يُقرأ يأخذ موقعَه من عقل الإنسان وينفذ إلى وعيه، لكنه لا يظهر سريعا، ثم تجتمع تلك القراءات المتناثرة لتكون شخصية القارئ العلمية والفكرية، فكيف لو كانت كل تلك القراءات بأفقيَّتها ورأسيتها في الكتب الجيدة وللكاتب المتقن؟

القليل من الفوضى والكثير من الانضباط:
ربما قرأت لأحد الأذكياء أنه يمارس الفوضوية في قراءاته وعلاقاته الغرامية بكتبه.
حسنا .. أدرْ نظرك تُجاه ثلّة كثيرة من أهل العلم والمعرفة كان الانضباط أساسًا وركنا منهجيًّا في قراءاتهم، وأثمر بدوره حُسْن تعلّم، ودّقة فهم، ورسوخ معرفة ..

ومن ملامح الانضباط معرفتك بمداخل العلوم، فمن أبرز ما كتب في العلوم الشرعية مداخلها، وقد تفنن الكُتّاب في رقم تلك المداخل وأحسنوا تحريرها، فينبغي عليك أن تتفطّن لها، ولأنها سميت مداخل، فالواجب في حقك أن يكون ولوجك إلى تلك العلوم عبر مساربها.

وعلى القارئ وهي يقرأ أن يكون مستعدًّا لتلقي المفاجآت السارَّة، فالكتاب الجيّد يدل على شبيهِه، ولذلك كن يقظًا وأنت تقلب الصفحات، حتمًا ستجد إشارات واضحة من المؤلف تجاه كتب كانت جزءً أصيلا في تكوينه المعرفي أو لبنات مهمة تكوّن منها كتابه الذي بين يديك، وربما وجد الإنسان بين السطور كُتُبا لا نظير لها، فقط وسّع حدقة عينك! ولا أظنك بحاجة إلى دلالتك على أهمية حرث هوامش الكتاب وجريدة المراجع، وتقليب النظر فيها مرارًا.

الأصل أولى من الاستثناء:
لا تشغلك كلمات بعض القراء حين تجدها مبثوثة في وسائل التواصل ، ومن ذلك: (أنا لا أحمل القلم مطلقا أثناء القراءة) .. وخذ مني هذه القاعدة التي تنفعك: بعض الاستثناءات تثمر مع أناس لكنهم قليل، فالاستثناءات في كل المجالات تُحفظ ولا يقاس عليها، فعليك بالأصل الذي لا يكدّره الاستثناء، وهو حمل القلم في أثناء القراءة، وخصوصًا في قراءة التعلّم والبناء والتزوّد، أما قراءات الاسترخاء والسَّمَر فالأمر فيها يسير.

بين الواحدة والثلاث:
تأمل في مقولة ماكسيميليان فيبر: “الكتاب الذي لا يستحق أن يقرأ مرتين، لا يستحق أيضا أن يقرأ مرة !”(1) . ما الذي فهمته من كلام فيبر؟ واشتهر عن العقاد أنه يرى أن قراءة الكتاب ثلاث مرات أجدى وأنفع من قراءة ثلاثة كتب(2) .. فإذا أردت المفاضلة فالتكرار على طريقة العقاد أفضل وأكثر تمتينًا للمعارف، وإن كنت ترى أن ذلك مما يصعب عليك، وأنه قد يدخل عليك الشتات القرائي، فخذ ما تراه مناسبا لك.

البناء المتين أولا:
لا تعجل في اللحاق بالكبار ومطاولة أساتذتك .. فأنت بحاجة ماسّة إلى صرف زمن طويل لتقف بثبات، وترى بوضوح، وتدرك بوعي .. ثم يمكن أن تسامي بعدها الأشياخ بل وتتفوق عليهم، ولست بحاجة إلى تذكيرك بخطر الغفلة عن صحة المقصد، ولكني معك في وضع أهداف بعيدة، ونقاط مستقبلية تسعى للوصول إليها .. وفي هذا الشأن تذكر كلمة ابن الجوزي، حين قال: “إني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب… ولو قلت إني طالعت 20 ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب” (3)، أعد الآن قراءة الرقم، مع ربطه بقوله: ” وأنا بعد في الطلب” وغالبًا كان هذا في شبابه وقبل كهولته!!

نحتاج في مرحلة البناء إلى تمتين المخزون المعرفي، حتى ينقذنا من الورطات الثقافية المتوقعة، والتي يريد أن يمررها بعض المؤلفين، حين ينسجون في كتابتهم ثيابًا موشحة بالأخبار والنقولات والأحداث المتلاعب فيها، حتى يظن القارئ أن الحق تمامًا فيما يقرؤونه، ومن ثم يضعف ويتهالك تماما أمام الفكرة المصنوعة من جديد لتشويه حقائق ماضية، وتصبح قناعاته الراسخة سابقًا ضربًا من “التخيّل”.

الذكاء يكشف المخبآت
يختلف القارئ الذكي عن غيره في مساحة استيعابه أثناء القراءة، وفي فهم أفكار المؤلف الواضحة والخفية، وفي معرفة ما تركه من أفكار قصدا ليصل إليها بتأمله .. وأتذكّر كلمة شيخ البلاغيين أبي موسى : “القارئ الذي يحتاج أن يقال له كل شيء لم يَردْ في خواطر علمائنا، وما ورد في خواطرهم هو الذي يؤخذ بيده خطوة ، ويترك ليخطو هو الخطوة التي تليها”(1).

كما يمتاز القارئ الذكي بخصائص عالية يتفوق بها على غيره، ومنها أنه ينظر في النص فيقتنص منه ملمحا وفكرة أرادها المؤلف ولم يفصح عنها، وأحيانا يبني من تأمله أفكارا جديدة لم يردها صاحب النص .. وهو مع هذا لا يَغْفل عن تلك الفجوات بين النصوص، فيصنع رؤى وافكارا ترتق تلك الفجوات، وتنسخ الخيوط بين المعلومات، وتزيد الجمال والكمال في حقله المعرفي.

ومن المتقرر أن الذكاء موهبة فطرية، يعوّض كثيرا منها الاجتهاد وكثرة المزاولة، وفي هذا الشأن تعجبني هذه الكلمات المحلقة للرافعي، وأردِّدُها كثيرًا، حيث يقول:” إن دأبت في القراءة والبحث وأهملت أمر الزمن طال أو قصر = انتهى بك الزمن إلى يوم يكون تاريخا لمجدك، وثوابا لجدّك” ، على قناعة أن الصادق في رغبته لا يثني رقبته لينظر إلى الفائت، بل عيناه شاخصتان ليغتنم القادم، وينتهز الفرص.

إعمال الفكر سر الرسوخ:
القراءة مع التفكير هي التي تعطيك ما كنت تؤمله قبل اقتناء الكتاب، وعليه فالتركيز والتأمل والفحص للأفكار من الغنائم الكبرى للقارئ الماهر، يقول أ.د. عبدالله البريدي: “في العقل غرف معْتمة، لا يدلنا على كنوزها غير قراءة ماهرة”(1)، ومن ثمرة التفكير الجيّد في أثناء القراءة أنه لا يكتفي بمنحك الفهم والاستيعاب، بل ينتقل بك إلى مرحلة أعلى من التنبه إلى سيئة قبول المتضادات والمتناقضات التي تقرأ في عدة كتب.. فكاتب ينسج عبارة ملتبسة طويلة فيها جودة سبك ظاهرة، وآخر يكتب نقيضها بتعبير مختلف ومفردات من ثقافة أخرى.

التفكير الجيد يلسعك، لتكتشف سريعا أن هذه الفكرة لهذا الكاتب تناقضُ تلك الفكرة لذلك الكاتب الآخر، وبدل أن كنت تهز رأسك بقبول الفكرتين معا، صرت تعرف الصحيح منهما فتقبله سريعا وتطّرح الأخرى، وعليه فالقراءة ليست مراكمة للمعلومات، فهذا الحشد والتجميع لا يبني المعرفة، ولذلك – للأسف- إذا تأملت وجدت أن الأكثرية يراكمون، والبناة قليلون! يقول محمود شاكر : ” وما يفوز القارئ حين يفوز إلا بما يفطنُ إليه مما يغفل عنه غيرُه” (2).

أعد ترتيب وإدارة قراءاتك:
إدمان قراءة النصوص المختصرة Short texts (التغاريد، منشورات الفيس، رسائل الواتس وغيرها)، تصرف القارئ عن إمكانية إنهاء المقالات ذات الصفحات المتعددة، فكيف بالكتب متوسطة الحجم فضلا عن الضخمة والموسوعات ؟! كما أن مواصلة قراءة التافه من الكلام وما لا قيمة ولا نفع فيه، كما هو الحال في مواقع التواصل، من شأنه تشويه ذائقة المتعلم، والنزول بمستواه وفهمه من حيث لا يشعر، وانظر إلى هذا الكلام النفيس للجاحظ، حيث يقول: “اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد، والدني الساقط، يعشش في القلب ثم يبيض ثم يفرخ، فإذا ضرب بجرانه ومكن لعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكن الجهل وقرح، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه؛ لأن اللفظ الهجين الردي، والمستكره الغبي، أعلق باللسان، وآلف للسمع، وأشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم. ولو جالست الجهال والنوكى، والسخفاء والحمقى، شهرا فقط، لم تنق من أوضار كلامهم، وخبال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا، لأن الفساد أسرع إلى الناس، وأشد التحامًا بالطبائع، والإنسان بالتعلم والتكلف، وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء، يجود لفظه، ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخيّر”(1).

التكامل المعرفي واجب الوقت:
في هذا الزمن الذي نعيشه حيث تختلط الثقافات وتلتبس بعض الحقائق، ويندر الحذّاق الذين يفرقون بين الأشياء الملتبسة، ويضعون كل شيء في موضعه، مع انشغال كل طالب علم بتخصصه، بل وتقصير كثير منهم في إجادة هذا التخصص، أحسب أنه لا يعيد الأمر إلى نصابه، ويحدث التوازن العلمي والمعرفي، ويبني سدا منيعا أمام التيارات العابثة فكريًّا وخلقيًّا، كل ذلك يؤكد أنه لا يعيد ذلك إلا بضبطنا من جديد لأصول العلوم الشرعية، وألا نكتفي بها، بل وألا يطمئن طالب إلى العلم إلى معرفته الجيدة بتخصصه، بل لا بد من الوقوف على كثير من الفنون والقراءة الواسعة فيها، واصطياد ما يتطلبه تخصصه وحاجة الناس.

يقول المفكر المغربي د. عبدالرزاق بلعقروز: “الواقع الذي نعيشه معقد، ولهذا فالتكامل المعرفي لا يعدّ من النوافل، بل يعدّ من الفرائض”(2).

مراتع شهية:
الحديث عن القراءة لا يتوقف ولن يتوقف، وكثير من القراء يريد أمرين مهمين:

    – كتبًا تحفزه .
    – وأخرى تضبط له المنهجية.

وسأقترح عليك أيها القارئ ما أحسب أنه يجمع الأمرين معًا، على تفاوتٍ في جودة التحرير والمعالجة، وهي سبعة كتب من أجمل ما قرأتُ في الحديث عن القراءة وبعث النشاط لها، ومعرفة الركائز المهمة فيها:

     – المشوق إلى القراءة – في محراب القراءة. كلاهما لـ د. علي العمران
     – قراءة القراءة. فهد الحمود
     – كينونة ناقصة. أ.د. عبدالله البريدي.
     – مكتباتهم . محمد آية حنا .
     – داخل المكتبة.. خارج العالم. راضي النماصي .
     – ارتياض العلوم. د. مشاري الشثري.
     – دروب القراءة. رائد العيد.

أ.د. عبدالله بن علي الشهري

أكاديمي وكاتب.

المزيد من المقالات

  • All Posts
  • عام
  • مقالات
  • نشرتنا
هوس الشهرة الرقمية

لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...

30 أبريل, 2025