إرشاد من يحسن لغة أعجمية إلى الترجمة

علمتَ -بارك الله فيك- أنَّ العلومَ من قديمٍ يتناقلها الخلف عن السلف، ويأخذها العربُ عن العجم، والعجم عن العرب. ينتفع بها من نُقلت إليه، ويهذِّبها ويرقِّيها ويزيد فيها، حتى إذا دارت دورةُ الزمان، أخذها عنه مَن بعده، فهذب وزاد، والأمر هكذا دواليك.

ولم يزل يمرُّ على العرب أزمانٌ يكثر فيها النقلُ عن الأعاجم، كأيام الخليفة العباسي المأمون، وكأيام نقلِ أهل مصر لكثيرٍ من تصانيف الفرنسيس قبل مئتي سنة. وتمرُّ بهم كذلك أيامٌ يكثر فيها النقل عنهم إلى لغات العجم، كما كان في المئة السادسة من الهجرة، لما أكثرَ علماء طليطلةَ من نقل تصانيف العرب إلى لغاتهم. ولا أظنُّ الناس مرَّ عليهم زمانٌ في كثرة النقل كزماننا هذا، لكثرة من يحسن لغاتِ العجم، وكثرة من يدرسها دراسةً، وكثرة المواقع التي تعين على الترجمة، فصار المرء يترجم في أيامٍ ما كان الأوائل يترجمونه في شهر. وكثُرَ التراجمة جدًّا -لكثرة العارفين بلغات العجم-، حتى صرتَ لا تحصيهم كثرةً، ولا تحصي ما ترجمت أيديهم، وتأمل ما ترى من المقاطع التي تُترجم -في مواقع كاليتيوب وتويتر-، بل تأمل كثرةَ ما يُترجم من أفلام ومسلسلات، وكثرةَ ما يُترجم من مقالاتٍ في النتِّ، وكثرةَ ما يُترجم من كتبٍ تراها في مواقع دور النشر وعلى رفوف المكتبات وخزائن الكتب. وكذلك القولُ في الترجمة عن العربية، فإنك ترى من المقاطع شيئًا كثيرًا، وفي المقالات والكتب، وتأمل هذا في مواقع الدعوةِ ومقاطعها، وفي دور النشر التي اشتغلت بترجمة كتب العرب، قديمها وحديثها.

ثم إذا عرفتَ كثرةَ المترجمين وكثرةَ ما يترجمونه إلى العربية، فارجعِ البصرَ كرتين فيما ترجموا، تجد كثيرًا منه -لا سيما ما تُرجم إلى العربية- مما لا نفعَ فيه، لا لصاحبه ولا لمن يقرؤه، اللهم إلا اللهو. وكثيرٌ منها لربما كان في باطلٍ، وفيما كان ضَرُّهُ أقرَبَ من نفعه. ولستُ أريد بذلك أن التزهيد من الترجمة فيما هو لهوٌ، فإن للنفس نصيبَها من ذلك، ولا بد للمرء من الجمام بعد الجد، والاسترواح بعد الكدّ، وفي كتب اللهو ما فيها من نفعٍ، من الانقطاع عن محرّم اللهو والاشتغال بسفساف الأمور، وفيها تعويد النفس على القراءة، وما يكون من تهذيب الأخلاق، والاطلاع على أحوال الأمم، والنظر في أساليب الكتَّاب، والتعلم منها والاستزادة من ألفاظها وعباراتها وبلاغتها. إلا أنَّ من الخسران أن يَـكثُر التراجمة كثرةً عظيمة، وتُصرف في ترجمة المقاطع والمقالات والكتب الأيام والساعات، ثم لا تجد في أكثر ذلك ما يُنتفع به حقًّا.

ومثل هذا الأمر يصلح فيه السعيُ إلى حسن استغلال هذه النعمة التي ما تيسرت لزمانٍ نعلمه كما تيسرت لأهل زماننا، فما تكاد تجد بيتًا من بيوت العرب إلا فيه من يحسن لغةً من لغات العجم، وأكثرهم يحسن الإنجليزية، وفيهم من يحسن الفرنسية، والتركية، والأرديَّة، والهوساوية، والملايوية، وغيرها. وينبغي لمثل هذه النعمة أن تُتبع بأمورٍ -لمن أراد أن يحسن استعمالها وينزلها في ترجمة ما ينفع إلى العربية أو منها-، ومن هذه الأمور:
 

أن يدخلَ المرءُ الترجمةَ بشروطها، وأهم شروطها: ألا يترجم أمرًا إلا وقد علم من نفسه إتقان تلك اللغة وحسن فهم معاني أهلها وطرقهم في سبك الكلام، وعلم من نفسه معرفة مثل ذلك في العربية. ولا ينبغي للمرء أن يتوهم في نفسه أنه لإحسان لغةٍ أعجمية يتيسر له الترجمة منها وإليها من فوره. وقد رأينا أقوامًا كُثُرًا أخذوا بطرفٍ من لغة أعجمية، فتقحموا الترجمة منها وإليها، وأخرجوا تراجم تكثر فيها أغلاط المعاني الظاهرة، وحرَّفوا أكثر الكلام، أو نقلوه نقلًا فاسدًا في قوانين اللغة التي يترجمون إليها، غير مستقيم الأسلوب، غريبًا على أفهام أهلها وعلى ما تعودته سلائقهم. فينبغي للمرء ألا يتقحم الترجمةَ إلا وقد عرف من نفسه فقه اللغة الأعجمية التي ينقل منها وإليها.

ثم إذا رأى المرء من نفسه قدرةً على الترجمة، فينبغي أن يأخذ حقَّه من الدربة، ويعرض بضاعته على أهل الفن حتى يحس من نفسه أنه محسنٌ فيها.

ثم يجتهد في اختيار ما أراد ترجمتَه، ولا يكون همُّه ما يكون أشيعَ بين الناس وأسرع تداولًا بين أيديهم، بل ينبغي له أن يفتش عما يعظم نفع ترجمتُه، وعما تكون الحاجة إليه أشد في اللغة التي يُترجم إليها، فلا يُترجم ما لا ينتفع به أحدٌ، ولا ما كثرت له التراجم، إلا أن يكون قد علم من نفسه أنه يأتي بترجمةٍ تفضل سائر التراجم لهذا الأمر. 

وقد يكون من الأمور ما تكون الحاجة إليه شديدة، إلا أنه أخص نفعًا، كترجمة المسائل الدقيقة التي لا ينتفع بها إلا خاصة الخاصة من أهل فنٍّ ما، وهذه حقُّها أن يشتغل بها من هو منصرفٌ إلى هذا الفن والترجمة فيه.
 

ومما يعين الداخلَ في هذا البحر، الواضعَ معرفتَه بكلام العجم في الترجمة، أن يقصد المواقع النافعة التي تنشر هذه التراجم لنفائس المقالات ونافعها، فيتخذها دربةً وموضعًا للنشر. فينظر في ما تنشره هذه المواقع من مقالاتٍ مترجمة، فينتفع بها على وجهين:

أولهما: أن يتخذَ تراجم من سبقه دربةً، فينظرَ في أصلها الأعجمي -أو أصلها العربي إن كانت مترجمةً عن العربية- ويتأمل كيف ترجم المترجمون أصولَهم، وكيف تصرفوا في الكلام ونقلوه عن صورته الأولى إلى صورته في اللغة التي يترجمون إليها. بل لربما نظرَ في الأصل ثم ترجمه بنفسه، ثم قاسه بترجمته المنشورة في هذا الموقع.
 
ثانيهما: أن يعلمَ من هذه التراجم المنشورة ما الناسُ إليه محتاجون، وما هم به منتفعون. كأن يكون محسنًا للغة أهل إندونيسيةَ وماليزيةَ، يريد الترجمة إليها، ويريد الترجمة في علوم الشرع، فيعلمَ من هذا الموقع أنَّ القومَ يكثر احتياجهم إلى بابٍ مخصوص، وفنٍّ معلوم، فيزداد من النظر فيه، والتفقه فيه وفي ترجمته. وإن كان يعرف الفرنسية، ويريد أن يترجم منها ما يكون من الأخبار والنوازل التي لا بدَّ للناس أن تعرفها، عرفَ من مثل هذه المواقع ما يكون نفعه أعمّ. وإنما يهتدي المرء إلى مثل هذه المواقع والمواضع بحسن البحث، والتفتيش عن مظان الفوائد، ولا بد للترجمان أن يحسن البحث، فالبحث للترجمان، كالآلة لصاحب الصنعة، لا بدَّ منهما.
 

ثم إذا انتفع من مثل هذه المواقع بمعرفة ما تنفع ترجمته، وتأمل في التراجم وأساليبها وتدرب على مثالها، جعلَ منها منصةً ينشر فيها -إن كانت فيما تبين له سليمةَ القصد، بعيدةً عن انحرافِ الرأي- وذلك خير من أن يتجشم ابتداء حسابٍ من عنده والنشر فيه ودلالة الناس عليه، فإن في مثل هذه المواضع معينًا له على نشر نفع ما يترجمه وإيصاله إلى المقصودين به. ولربما استهدى المرء في معرفة هذه المواقع بمن سبقه من المشتغلين بالترجمة في هذه اللغة -إما بسؤالهم وإما بالنظر فيما يترجمونه-، بل قد تكون هذه المواقع شيئًا مما تراه في مواقع التواصل، ومقاطع اليتيوب، ونحو ذلك، شريطةَ أن ينظر المرء فيها وفي مذهبها في الرأي، فلا يدخل نفسه مع قومٍ لا يُعرف حالهم.

ثم إذا خاض المرء غمار الترجمة، وأطال الغوصَ فيها، تهيَّأت له آلةٌ تيسر له الترجمةَ وتزيده فيها حذقًا، وتزيده معرفةً بما يكون النفع حقًّا، والأثر حقًّا، وعرف حاجة القوم الذين يُترجم إلى لغتهم.

وينبغي أن يُعرف قبلَ ختام الكلام أنَّ إرشادَ من يحسن لغةً أعجمية إلى الترجمة لا يُراد به الإنجليزية قصرًا، وإن كان غالب من يحسن لغةً أعجمية إنما يحسن الإنجليزية. وهذا -وإن كان بابًا عظيمًا من النفع- إلا أنَّ الناس كادوا يقصرون الترجمةَ فيه، ولا تكاد تجد مشتغلًا بالترجمة إلا مترجمًا من الإنجليزية أو إليها. وكثرةُ المترجمين من هذه اللغة حسنة، لأنها لغة الدنيا، ولم تزل العلوم كلها والفنون تترجم إليها، بل لربما كانت الترجمة إليها أنفع من الترجمة إلى غيرها من لغات العجم، لأن ترجمة الشيء إلى الإنجليزية، تيسر -لمن يحسن الإنجليزية- من أهل الأردية والروسية والسواحلية والألمانية والصومالية والملايوية وغيرهم أن يقف على هذا الأصل العربي، لكثرة من يحسن الإنجليزية منهم. أما الترجمة إلى غيرها من لغات العجم فتكون مقتصرةً على أهل تلك اللغة. إلا أنَّ خلقًا كثيرًا يحسن غيرها من لغات العجم، وخلقٌ كثيرٌ من العجم لا يحسن الإنجليزية، فحسنٌ أن يُنتفع بما يعرفه الناس من لغات العجم، فينقلون منها وإليها. فكم في مكةَ -مثلًا- ممن يحسن العربيةَ والهوساوية، ومن يحسن العربيةَ والبرماوية، ومن يحسن العربية والتركية، ونحو ذلك. وأظنُّك تجد مثل ذلك في كثيرٍ من مدن بلادنا، وفي سائر بلاد العرب.

ويكون بحسن استعمال الناس لمعرفتهم بهذه اللغات: تعليمُ الجاهل، وزيادة المتعلم علمًا، وتناقل العلوم -في أمر الدين والدنيا-. ويكون للعارف بالترجمة -إن شاء الله- بذلك: وضعُ موهبته في موضعها والانتفاع بها، ونيل الأجر، وحسنُ الذكر، وفاتحة لباب رزق.

د. أحمد الغامدي

مترجم ومؤلف.

المزيد من المقالات

  • All Posts
  • عام
  • مقالات
  • نشرتنا
هوس الشهرة الرقمية

لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...

30 أبريل, 2025