أمراض الحياة المعاصرة ومداواتها

يرى أهل التحليل النفسي أن “الإنسان كائن مريض”، (وهو المرض المسمى لديهم بالعُصاب) وكذلك يرى أهل التزكية أن “نفس” الإنسان مريضة بالآفات والعلل، لكن أهل التزكية يتميزون بأنهم يرون إمكانية معالجة النفس ومداوتها من أمراضها بالتزكية، أما التحليليون فيرون أن العُصاب لا يمكن الخلاص منه؛ فهو جزء من تكوين النفس، وغاية ما يقدمه التحليل هو معرفة هذه الأدواء والاعتراف بها وتعايش الإنسان معها في حياته.

والإنسان المعاصر أحوج ما يكون إلى المداواة والمعالجة، فعالمنا تشكّل على أنماط تعج بالأمراض والعلل ما يفضي إلى ترسيخ أمراض إنسان الحداثة المنغمس فيها، لم يشكُ البشر من التِّيه والضلال وضياع المعاني والمقاصد كما يعانونه اليوم، وكل من فَقَد وِجهته فهو في ضلال وتيه، حيث لا وِجهة له ولا مرسى لسفينته، ومن المفارقات اللافِتة أن كل ما ابتكره البشر اليوم من الوسائل سهّلت لهم أشياء كثيرة من احتياجات حياتهم، حتى أنه لا وسائل تملَّكها البشر يومًا مثلما تملكوه اليوم، لكنها على كثرتها وتشبّع عالمهم بها لم تفضِ بهم إلى تجاوز تلك العلل والأمراض، بل ربما كثير من تلك الوسائل زادت عناءهم الروحي وأمراضهم كما لا يفتأ الخبراء يكتبون عن اغتراب الانسان ومشكلاته نتيجة التطورات التقنية والاتصالية المدهشة، هذا يعني أن الإنسان المعاصر جمع إلى فقدانه للمقاصد الكبرى ومعاني وجوده الكلية فقدانَه الوسائل الصحيحة لمعرفة ما فَقَد والوصول اليه، وهذا القصور الذي لحق الرتبتين كلتيهما، رتبة المقاصد والمعاني ورتبة الوسائل والسبل، يكشف عن عمق الضلال والتيه ورسوخهما، ويكشف عن حقيقة أخرى وهي أنه لا خلاص من هذا التيه ولا وصول لمعرفة مقاصد وجود الإنسان إلا بالوسائل الصحيحة.

والدليل أنه على كثرة ما كتبه الأخلاقيون الغربيون من نقد للواقع الأخلاقي الحداثي؛ وعلى تميز ذلك النقد وإبداعه، وعمق التحليلات التي أفضت إليه، إلا أن كل تلك الكتابات المتميزة الوفيرة لم تسفر عن حلول ومخارج عن تلك المضايق والانسدادات، وليس من الصعب معرفة السبب؛ فالفضاء الذي أنتج المشكلات لا يمكنه الخروج إلا بحلول من جنس تلك المشكلات، وحلوله قد تفيد مؤقتًا وجزئيًّا، لكنها تعود مرة أخرى بمشكلات أعمق وأرسخ من جنس أخواتها من قبل، وما التيارات الفكرية والاقتصادية والسياسية الكبرى التي ينسخ بعضها بعضًا وينقد آخرُها أولَها إلا تفسيرًا لهذا السعي المحموم لمعالجة المشكلات معالجةً تفضي إلى مشكلات أخرى من جنسها، وقد أضحت “روح التقدم والاكتشاف” مقصدًا بذاتها بغضِّ النظر عما قد تفضي إليه من المعضلات، فقد لاحظ المراقبون للحياة الحديثة أن “العلاج خير من الوقاية” على خلاف ما سارت عليه البشرية في تاريخها المديد، فالتقدم التقني والمادي مقصد مركزي، وكل المشكلات المترتبة عليه قابلة للمعالجة، المهم أن نغامر ونتقدم، وقد ربط بعض المؤرخين بين روح التقدم والمغامرة (عبادة التقدم) وبين المكانة الكبرى لشركات التأمين واقتصادياته، حيث يقوم التأمين بدور رئيسي في ضمان عواقب المغامرات في شتى المجالات، ولنلاحظ أن بعض نقاد الحداثة من أهلها قد يشيرون إلى مقاصد صحيحة مثل بعض قيم العدل والتعاون والإحسان والمسؤولية وما شابه، مما يدركه الانسان بفطرته وشعوره الباطن، أو تدله عليه حاجة معاشه واجتماعه؛ لكن قصور وسائل الانسان عن تحصيل هذه المعاني بالقدر المطلوب والملائم أفضى ببعض الاتجاهات إلى اليأس من تحصيلها واصفًا هذه المقاصد بـ”المثالية” قاصدًا أنها معاني لا وجود لها في الواقع المتحقق، غافلًا عن كونه أعرض عن الوسائل الصحيحة لمعرفة نفسه ومعرفة العالم ومعرفة أسباب وجوده ووسائل مداواة أمراضه الروحية والنفسية والفكرية، وعود على بدء فالمعرفة الحديثة عبقرية في اكتشاف الوسائل المادية لكنها عاجزة تمامًا عن اكتشاف وسائل تحصيل المقاصد الروحية واصلاح الأدواء النفسية، وسبب هذا كله أعراض الانسانية الحديثة وأنظمتها المعرفية عن معرفة الله ومعرفة وحيِه وشريعته، هذه المعرفة التي اتخذها أهل التزكية والتخلّق الديني نبعًا لا ينضب من الوسائل الشرعية التي تدلُّ الانسان وتعرِّفه مقاصدَه العليا وتدلُّه الوسائل الهادية السامية، ولو تدبّر الانسان سورة الفاتحة التي يقرأها المسلم مرات عديدة يوميًا طوال حياته لأدراك أن من معانيها الكلية هي مسألة المقاصد والوسائل، فحمدُ اللهِ بصفته الإلهية والربوبية والرحمانية والمالكية الواسعة الشاملة، ومن ثم استحقاقه العبودية، تلك هي المقاصد والغايات الكبرى، وتتضمن الاستعانة والهداية والصراط المستقيم الذي سلكه المنعم عليهم وتجنّب طرائق المغضوب عليهم والضالين هي الوسائل المضمونة النتائج المأمونة العواقب، هذه المعاني الكلية تجيب عن اسئلة الوجود والمعنى والمنهج والمصير.

يبحث فلاسفة معاصرون (على رأسهم ميشال فوكو) سببَ ظهورِ الإنسان المعاصر واختلافه العميق عن الانسان القديم، فيحدِّدون السبب باختلاف ما سمّاه “تقنيات النفس” فالتقنيات التي أنتجها الإنسان سابقًا اختلفت وظهرت تقنيات جديدة مثل الرأسمالية والربح والاستهلاك والقانون وأنظمة العقاب والتربية الخ، ظهرت بديلا لتقنيات سابقة لدى اليونان والرومان تعمل على ما يسميه الاهتمام بالنفس، أو قل: صلاح النفس، (يمثّل لها فوكو في كتابه “تأويل الذات” بـالتأمل وتذكر الماضي وتقنيات المحاسبة والمراقبة وامتحان الضمير)، هذه التقنيات الغربية يقابلها في شريعة الاسلام ما نسميه: (التزكية) ويسميه الأخلاقيون المسلمون: (صيانة النفس وتهذيبها ورياضتها)، هذه الوسائل الشرعية التي تزكِّي النفس وتصلحها تبني أيضا المعاني السامية وتحدد المقاصد الكبرى والقيم العليا، وهذا هو المقصود بأن الوسائل الصحيحة تفضي ليس فقط إلى معرفة المعاني والمقاصد والقيم بل ووسائل تحقيقها وتمثُّلِها، ولا يمكن معرفة هذه المعاني الروحية والوجودية إلا عبر الوحي، إذْ كيف للإنسان الذي هو جزء من هذا العالم أن يعرف مقاصد العالم وما وراء العالم، أنى للجزء أن يعرف الكل؟! لا سبيل لمعرفة مداوة باطن الإنسان إلا بالوحي، مضمون النتيجة مأمون العاقبة، ولضرب المثل في وسائل تزكية النفس (تقنيات النفس بلغة الفلاسفة) بـ”الذِّكر”، الذي يشير بلفظه إلى مضادِّه النسيان، فالذكر تذكير وإحضار للمنسي، وهو وسيلة شرعية راسخة وشاملة لحياة الإنسان المسلم، تعمل على تذكيره الدائم وإحضار المعاني الكلية في وجدانه لتوجّه حياته وتنتنظّم على هدايتها ونورها، ولنأخذ هذه الكلمات الثلاث: (سبحان الله والحمد لله والله أكبر)، فـ”سبحان الله” تنزيه مطلق للإله عن كل نقص وشريك، ويدخل فيه تنزيه أقداره وشريعته عن النقص والقصور والظلم، و”الحمدلله” هو ترسيخ لمعاني الثناء والتمجيد لله على صفاته وأفعاله، فكلها كمال وجمال، فتنقلب رؤية المسلم لعالم الإله وأقداره وآياته وشريعته نظرة جمالية أفضت به إلى الحمد في كل أمره، لا إلى الشكوى والتذكر والبؤس، و”الله أكبر” تذكّره على الدوام أن الأكبر هو الله، فتصغر في عينه المصاعب والمظالم والعقبات، فما دامت علاقته بـ”الأكبر” راسخة فكل ما عداه أصغر، فينفي من نفسه الخوف واليأس والإحباط والعجز وقلة الحيلة، هذه معاني يتشبّع بها المؤمن ليواجه فيها العالم وهو يكابد ابتلاء الوجود، فتجعل تعامله مختلفًا عن تعامل من تشكَّلَت ذاته عبر تقنيات الاستهلاك والسعي المحموم لجمع المال والشهرة والعبّ من الشهوات وتجاوز الحدود، ولنختم القول بهذه الملاحظة الثاقبة لشيخ الإسلام ابن تيمية إذْ يقول مقارنًا طريقة الأنبياء في معالجتهم للناس بطريقة الفلاسفة، يقول: (ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم السلام أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم ، وينهونهم عما فيه فسادهم، ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة، فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة، أو موجب للضرر، ومَثَل النبي صلى الله عليه وسلّم مَثَل طبيب دخل على مريض فرأى مرضه فعَلِمه؛ فقال له: اشرب كذا واجتنب كذا، ففعل ذلك، فحصل غرضُه من الشفاء، والمتفلسف يطوّل معه الكلام في سبب ذلك المرض وصفته وذمّه وذمّ ما أوجبه، ولو قال له المريض: فما الذي يشفيني منه؟ لم يكن له بذلك علم تام)، وهذا يتضمن كل المعاني التي يحتاجها الإنسان ويعجز عن تحصيلها في غير طريق الوحي والنبوات، مثل معرفة الخالق بأسمائه وصفاته ومحبته وعبادته ودعائه والتواصل معه بالصلاة والدعاء أو بمعرفة آياته القولية والفعلية، ومثل مسائل الغيب واليوم الاخر، ومسائل التشريع والتي تنظم تعامل الانسان وأخلاقه مع ربه ونفسه وغيره والعالم من حوله، ولا شيء يخاطب كل أبعاد الإنسان في ظاهره وباطنه، ويشبعها، مثل الدين المنزّل، فهو أحوج ما يكون إليه، حاصل القول أن الوحي جاء بالمقاصد والمعاني الكبرى وجاء بوسائل معرفتها وتحقيقها، وما تضمنه الوحي من الإيمان والعبادة والتوحيد والشريعة والعمل والقصص والأخبار والتوجيهات يتضمن كل هذا، والمأمول أن يدرك المسلمون -قبل فوات الأوان- هذ الكنوز العظيمة التي أنعم بها وائتمنهم عليها ليعملوا فيها في إصلاح أنفسهم، ويساهموا في إصلاح واقع البشرية المريض اليوم.

سليمان-الناصر-1

أ. سليمان الناصر

باحث في الشريعة والفكر المعاصر

المزيد من المقالات

  • All Posts
  • عام
  • مقالات
  • نشرتنا
هوس الشهرة الرقمية

لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...

30 أبريل, 2025