
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
إن الدرس التاريخي والرَّصد الحضاري للأمم والمجتمعات والدول ليؤكدان حقيقة ناصعة نسكبها في هذه القاعدة المكثفة: النهضةُ خبرٌ ومبتدأها “تربيةٌ فاعلةٌ”، والتربيةُ محركٌ وقوده “الأنفة الثقافية”. من الواضح أن القاعدة السابقة تَتَقوَّم على مفهومين اثنين: “التربية الفاعلة” و”الأنفة الثقافية”، فما المقصود بهما؟ تبيان ذينك المفهومين يحتاج إلى بسط طويل وأمثلة عديدة، ونحن لا نطيق ذلك في هذا النص الصغير، مما يجعلنا نكتفي بتوصيفات وإشارات مختصرة، ولعلها تفيد شيئاً في: الإبانة والبرهنة إزاء الصحة والنجاعة لقاعدتنا السابقة، وبالأخص لعجزها المتعلق بفكرة افتقار التربية لـ “الأنفة الثقافية”، وذلك أن صدرها (كون النهضة مفتقرة للتربية) بات من الأمور المسلَّم بها، مع انحصار الخلاف إلى درجة كبيرة حول: ماهية التربية ومضمونها وأساليبها.
إذن، دعونا نبتدر توصيفنا المختصر بالمفهوم الذي قد يكون جديداً على الأكثرية، ونعني به: “الأنفة الثقافية”، فهذا المفهوم الذي نطرحه وندعو إليه – منذ نحو 18 عاماً- ليس مفهوماً بسيطاً Concept، بل هو مفهوم بنائي Construct، حيث يتكون من عدة بِنيات مفاهيمية، وله تمظهرات متنوعة، مما يجعله يشكِّل “عائلة مفاهيمية”، تتضمن على سبيل المثال: الأنفة اللغوية، الأنفة العلمية، الأنفة التربوية، الأنفة التنموية، الأنفة الفلسفية، الأنفة الحضارية ونحوها. والدلالة الرئيسة لمفهوم الأنفة الثقافية تتقوَّمُ على ثلاث بِنيات مفاهيمية متكاملة، وهي:
1- بِنية الخصوصية.
2- بِنية الاعتزاز.
3- بِنية الانحياز.
بعبارة موجزة يمكن وصف الأنفة الثقافية بأنها: “مكوِّنٌ نفسيٌ ذهنيٌ وجدانيٌ مركبٌ، يولّد في النفس: اعتقاداً وشعوراً وسلوكاً بـ الخصوصية المنفتحة والاعتزاز المعتدل والانحياز الواثق لـ عقيدة ورؤية وأخلاق خاصة، تحدد للإنسان والمجتمع طرائق: التدين والتخلق والتعلم والمعاش والإنتاج”. ما سبق، يعني أن لدى الفرد المنتمي للمجتمع ولدى المجتمع الحاوي لأفراده اعتقاداً جازماً بأن ثمة خصوصية تدفعه لأن يعد “كتيبَ تشغيلِ المجتمع”؛ في سياق ينمِّي الاعتزاز بهذا الكتيب، والانحياز الواجب لكل ما يجعله: خيَّراً دقيقاً سديداً ناجعاً.
هنالك شواهد تاريخية كثيرة تبرهن على حقيقة توسل المجتمعات الناهضة بوقود الأنفة الثقافية، ومن الملامح التاريخية على سبيل المثال ما يمت بصلة للفكر الفلسفي وما يتبعه من تأثيرات على الفكر التربوي من جهة: التنظير والتطبيق، وفي المدونة الفلسفية الفكرية نجد أن الغربيين عمدوا إلى “تقشير” الفكر اليوناني مما علق به من الفكر العربي الإسلامي، وظفروا بـ “اللب الغربي” وفق منظورهم الخاص، وثمَّروه وكاثروه بالتفلسف والإبداع عبر آليات التربية والدرس والبحث والابتكار والتقنية في مؤسساتهم الجامعية والبحثية والفكرية والإنتاجية، ومثل هذا يشي ببحث جواني عن “تفلسف نقي”، أليس كذلك؟ وهذا التفلسف ثمرة وجود قدر كافٍ من الأنفة الثقافية لدى المجتمع الغربي، حيث صنع دستوراً تربوياً ينطلق من ذخائره الدينية والفلسفية والفكرية والحضارية. ولقد صنع الإغريقُ قبلَهم الشيءَ ذاتَه في ربيعهم الفلسفي، وهي الفترة المسماة بـ “الهيلينية”، حيث خلَّصوا فلسفتهم من الكثير من الأبعاد ذات الصلة بالشرق القديم، ومن ذلك جوانبها السحرية، كما أنهم تخلصوا للأسف من فكرة “العمل”، فانفصلتْ المعرفةُ لأول مرة عن التجربة.
وهنا نلحظ أن هذ “التقشير الفلسفي” هو إيجابي في جانبه الأول (كشط السحري)، وسلبي في جانبه الثاني (محو التجريبي)، حيث أحدث هذا المحو الخاطئ فصاماً نكداً بين: المعرفة النظرية والمعرفة العملية، مما أثَّر سلباً على تفعيل الروح التجريبية في البحث العلمي لدى المجتمع اليوناني، فتورط بالمقابل في: تفكير مثالي عقلاني صرف، فلم يطق من ثمَّ الولوج إلى دوائر التجريب والتصنيع، مما أخسرهم أسرار اكتساب القوة التي يحافظون بها على تراثهم ومقدراتهم ودولتهم، في سياق تربوي لم يفلح هو الآخر في المحافظة على “العصبية” الاجتماعية والفكرية الكافية لاستمرار الدولة، فجعل “يذهب بأسهم وتنخضد شوكتهم” كما في تعبير ابن خلدون رحمه الله، وكان أن حدث أن البأس ذهب -وفق تروس التاريخ الصلبة- للرومان، فقوي بأسهم واشتدت شوكتهم وأجهزوا على المجتمع الإغريقي الغارق في المثالية الجوفاء والمنطقية العمياء، المعادي في تربيته للعقل الواقعي التجريبي، حيث عمدتِ التربيةُ الإغريقيةُ إلى جعلهم يؤمنون بأن عمل اليد لا يليق بالسادة “المنظِّرين”، إذ هو عمل العبيد المنبوذين، فنأوا من جراء هذا المسلك التربوي الفاشل عن العالم الواقعي التجريبي، ولقد عبرتُ في نص آخر عن ذلك بفكرة أن: السوسيولوجيا تميت الإبستمولوجيا.
الممارسة الغربية وقبلها الإغريقية فيما يخص “تقشير الآخر”، وتنحية فكره والتخلص منه، تؤكد أن الفلسفة الغربية وقبلها اليونانية تؤمن بـ “الخصوصية” لا “الكونية”، بوصفها القاعدة التأسيسية للإبداع، وذلك أن التفلسف نابع من الرؤية الكلية للإله والكون والحياة والعلم والإنتاج، وهذه الرؤية يشكلها الدين بالدرجة الأولى، وتلونها الثقافة بعاداتها وإرثها وتقاليدها ومزاجها الخاص بالدرجة الثانية، وكل هذه الأبعاد مصنوعة من هيكل الخصوصية ولحمها وشحمها وعضلاتها ومفاصلها.
لم يكن “تقشير الآخر” وممارسة “التفلسف النقي” حكراً على الإرث الإغريقي والغربي، فقد سبقتْ إليه الفلسفات الآسيوية الموغلة في القدم كالهندوسية والجاينية والبوذية والكونفوشيوسة والداويَّة، حيث جعلتْ من تفلسفها منصة للمؤاخاة بين: الديني والفلسفي من جهة، وبين النظرية والممارسة من جهة ثانية، مع تركيزها على بناء المنظومة الحجاجية وفق هذه المؤاخاة، على أنها تميل إلى التبصر المعمق في الواقع وفهمه بوصفها مرشداً للحياة، مستبعدة أي أطر دينية أو فلسفية تتعارض معها، أو تشغب على التعاضد بين تلك المكونات التأسيسية (=الدين والفسفة، والنظرية والتطبيق)، مخالفة بذلك الفلسفة الغربية التي تُزعم كونيتُها، وهذه الكونية قد تجعل البعض يتساءل: هل توقف راهناً التقشير الآسيوي للأطر الدينية والفلسفية المعارضة؟ (للمزيد حول هذا المبحث وفكرة تقشير الآخر، انظر كتابي: كينونة ناقصة).
ومن الجلي أن “التربية” هي ضمن أهم الفصول التي يجب تسطيرها في “كتيب تشغيل المجتمع”، وهذا الكتيب يجري إعداده من لدن منظِّري المجتمع اتكاءً على الإطار: النفسي الذهني الوجداني للأنفة الثقافية التي يتوفر عليها المجتمع بقوالبها الصريحة والضمنية؛ في المجالات: الدينية والمجتمعية والتربوية والمعرفية والاقتصادية والإنتاجية في مختلف المجالات. ومحورية التربية في كتيب تشغيل المجتمع نابعة من حقيقة كونها الوسيلة الرئيسة لتحويل فكر المجتمع إلى سلوك عملي، وهو ما يجعلنا نقرر بأن: التربية بدون أنفة ثقافية تغدو كمن يستخدم كتيب تشغيل التلفاز لتشغيل السيارة!
التربية اقتراض من السالف نؤديه للخالف. وهذا السالف مكون حضاري مركب، إذ يتجسد في: نص ديني، خلق فطري، نهج تزكوي، سلوك قيمي. وأما الخالف فيتمثل في: الفرد، الجماعة، المؤسسة، المجتمع، الوطن، الإنسانية. لا تكون التربية فاعلة إلا إذا كانت سامية في: أصلها وذخيرتها وغايتها. كثيرون قد لا يعلمون أو يتناسون أن مفهوم التربية في لبِّه اللغوي مقتبس من أنوار الأسماء الحسنى، وذلك أن الرب جل جلاله “يربي” خلقه بالنعم ويتعاهدهم بالرسالات والشرائع، لكي يرتقوا في مدارج الكمال بقدر طاقتهم، وذلك أن معناه: “تبليغ الشيء كماله شيئاً فشيئاً”، فالمربي الأعلى والأسمى للإنسان إنما هو الله جل جلاله، وهو ما يضمن للتربية سموها من جهة المرجعية والذخيرة والغاية، ويمنع انحطاطها أو تسفلها بالماديات أو التافهات. إذن، هذا المفهوم أصيل في فكرنا العربي الإسلامي، وهو ملهمٌ أيضاً وأحسب أن العالَم بأمس الحاجة له، ولعلنا نوفق في تثميره وتسويقه في ساحتنا القريبة والبعيدة.
وكيف لا تكون التربية “فاعلة” في حياض مفهومنا الأصيل الماتح من: أنفتنا الثقافية، والتربية الربانية للإنسان تدفعه لأن يكون: مؤمناً قوياً معطاء خيّراً إيجابياً، في: نيته ونفسه وماله وعلمه وعمله وقوله ودنياه وآخرته، كما في هذه الذخائر التربوية: “المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللَّهِ، ولَا تَعْجَزْ”، “اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى”، “لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ”، وفي نص آخر: “تَبَسُّمُكَ في وَجهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَأَمرُكَ بِالمَعرُوفِ وَنَهيُكَ عَنِ المُنكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرشَادُكَ الرَّجُلَ في أَرضِ الضَّلالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الأَذَى وَالشَّوكِ وَالعَظمِ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفرَاغُكَ مِن دَلوِكَ في دَلوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ”، ونحو ذلك كثير.
ولا تكتفي هذه التربية الفاضلة الفاعلة بمثل ما سبق من التوجيهات الإرشادية لـ “صناعة إنسان مؤمن خيِّر”، بل تجهد بزكاء وذكاء إلى تجفيفِ جداول السلبية والأنانية في النفس الإنسانية، عبر ربط العطاء بالغاية المنشودة والحقيقة الدامغة، كما في قوله تعالى: “وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ”، فهذه التربية تجعل الخاسر هو: القاعد عن العطاء والمتلكئ عن السخاء؛ في: القول والعمل والمال والخلق والعاطفة. ولعلي أختم بهذا السؤال: كيف يمكن تفعيل مفهوم “الأنفة الثقافية” في رحاب التربية العربية الإسلامية، من جهة التنظير والتطبيق؟
كاتب ومفكر سعودي متخصص في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
من أهم مهمّات (الأسرة) أن تكون على مستوىً من الألفة والاجتماع والتحصن والقوة، ما يسهم في صناعة الجيل وتأهيله لإعمار الأرض على الوجه الذي أمر...
إننا اليوم أحوج إلى تثوير هذا النص النفيس في نفوسنا بعد أن أضحت معاينة الخلق لأحوال الإنسان وأعماله وأذواقه مشرعة لكل أحد ، وهذا يزيد...