
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
يحاول الإنسان قدر المستطاع أن يحقق ما يفكر به ويحوله إلى واقع يعيشه، يكرر المحاولة إذا أخطأ ويزيد من إنزال ما في ذهنه إن أصاب، وبين الخطأ والصواب يشعر بالقلق.
القلق هو حالة طبيعية يشعر بها الإنسان ولا يكاد ينفك عنها، يعلمه القلق طرقًا متعددة للتفكير والاهتمام، يحوِّله إلى مصنع لا يهدأ ولا يستريح إلا بالدخول إلى فكرة بعد الخروج من أخرى، فيصيبه التشتت بسبب هذا التغير الدائم.
يصبح التشتت عاملًا للحزن وفَقْدِ الإنجاز، فالمشَتَّت لا يعجبه الوصول إلى نتائج صغيرة أو روتينية، يرغب في الزيادة الدائمة وتحقيق مالا يستطيع غيره تحقيقه، يبقى متنقلا بين المواضيع دون تعمق في واحد منها فلا يصل لشيء غير الشعور بالضعف والتفاهة.
تعمل التفاهة على جعل كل ما يحيط بالفرد ركيكا لا قيمة له، تصبح الكبائر صغائر، والعقائد نسبية، والصدق مشكوكا فيه، وكل شيء قابلا للتأويل والاختلاف، ويتحول المحرم إلى مكروه أو مباح، والمعيب إلى عادة اجتماعية يمكن تجاوزها، والقانون إلى تنطع لا قيمة له، والكرم إلى إسراف وتبذير، والشجاعة إلى تهور وغباء اجتماعي، والوطن إلى مصلحة ونفع، والأسرة إلى مجموعة اعتيد الجلوس معها، ويتحول الغيب والقدر إلى خرافات وأساطير، والعمل والجد إلى عبودية للآخر، وغير ذلك من المظاهر التي تصبح كلها ركيكة لا تؤدي إلى صلابة الفرد وثقتها بشيء، وهنا تبدأ رحلته مع الاغتراب.
يتقدم الإنسان في العمر وتكبر معه خبراته ومعارفه وتصنيفاته للأشياء، فيوظف هذه الخبرات في آرائه وأفكاره الآنية وخططه المستقبلية، لكن الإشكالية أنه بهذه الطريقة يبقى حيًا في الماضي لأنه يعتمد على خبراته التي هي ماضيه، ويصبح ماضيه هو من يؤسس حاضره ومستقبله، فينشغل بتصحيح ماضيه وينسى حاضره، ينشغل بالماضي ثم يعدِّل كل القصص القديمة ويقدم لها تفسيرات وتأويلات فتتحول نفسه إلى محكمة وتحقيقات مع مجرم هو نفسه، وهذا يرهقه ويلغي حاضره فيجعله مغتربًا كارهًا للحاضر الذي لن يصلح ما دام الماضي معوجًا في نظره، ثم يقرر كي يتخلص من هذا العنف النفسي أن يرتبط بجماعة تخرجه مما هو فيه وتخفِّف عنه عناء النفس المرهقة، يبدأ بعد ذلك بالتواصل مع غيره كي يصل لمراده ويجد من ينقذه، يعدد معارفه ويحرص ألا يتعمق مع أحد منهم كي لا يعرف ما في نفسه فينكشف أمامه، فيشعر مرة أخرى بالاغتراب، هو يصنف من معه بالصديق المقرب لكن هذا الصديق لا يعرف عنه إلا القشور، لا يصل معه إلى معرفة دقائق حياته ومشاعره ومشاكله اليومية التي يحتاج فيها إلى معين يساعده على النهوض منها، وقد يدخل في علاقة شعورية مع امرأة -إن كان رجلا- أو مع رجل -إن كانت امرأة- كي يشعر بعمق التواصل ويتخلص من هذا العبء الذي بداخله، لكنه يكتشف بعد مدة أنه لا يحبها لكنه متعلق بها، تعلق بها لأنها الوحيدة التي استمعت له وعرفت ما بداخله وساعدته للخروج مما هو فيه، وهنا يبدأ الانهيار يأخذ منعطفًا آخر وأشد خطورة.
يخبرنا دوستوفيسكي في رواية الليالي البيضاء عن قصة رجل -لم يخبرنا باسمه- تعرف إلى امرأة اسمها ناستينكا، أنقذها من رجل كان يسيء إليها، ثم أوصلها لمنزلها وتعاهدا على تكرار اللقاء فكان ذلك، حذرته منذ اللقاء الأول أن يقع في حبها ووعدها بتحقيق ذلك لكنه لم يفِ بوعده فوقع فيما حذرته منه، فهل كان يحبها فعلا؟ الحق أنه لم يحبها لكنها أنقذته من وحدته القاتلة فكانت كالمعالج له ولم يفطن لذلك، جعلته وحدته يتخيل شعورًا غير ثابت ثم اكتشف بعد التعلق بها أنه يطارد وَهْما، والمهم من قصته أن تعلم أن الاغتراب النفسي يؤدي إلى تشوه التواصل مع الآخرين وتحويلهم إلى غير ما هم عليه في حقيقتهم، وهذا عين ما قصده هيجل لما جعل الاغتراب هو انفصال الإنسان عن كونه كائنًا اجتماعيًا، والاغتراب نوع من الانفصال عن الـهُوية التي تميز الفرد عن غيره فيصبح تابعًا لغيره مفكرًا فيه وإن كان مشغولا بشيءٍ آني، تجده يعمل أو يتحدث لكنه يفكر في غائب سيطر عليه، وقد يكون هذا الغائب إنسانًا أو فكرة أو حدثًا، وقد يكون وهمًا يطارده أو رغبة يريد تحقيقها، وهذا كله يجعله غائبًا عن الواقع مهما حاول الانخراط فيه، ويتحول كلُّ شيء حوله إلى تابعٍ للذي يشغل ذهنه حتى الأشخاص الذين يتحدث إليهم يجعلهم مطواعين لما يفكر به كما في حالة الرجل الذي توهم حبَّ ناستينكا التي حولها إلى مستمعة لأفكاره فيتحدث طوال الوقت وهي صامتة تسمع كلامه وأكاذيبه!
يتنوع الاغتراب وقد يجتمع في فرد واحد كلُّ ما افترق في غيره فيزيد شعوره بالغربة، قد يكون الاغتراب اقتصاديا بانفصال الموظف عن عمله شعوريًّا، يثقل عليه الذهاب للعمل ويفرح حين خروجه منه، بل كل ما يتصل بعمله من سلوكيات كالنوم مبكرًا أو التنظف وغسل الملابس وتجهيزها، وأفكار لها علاقة بالعمل كالتنظيم الوقتي لليوم وقراءة مواد معينة خاصة بتخصص مكان العمل، ويصل الحال إلى كرهٍ شديدٍ للطريق الموصل للعمل وأسماء الأشخاص العاملين معه، وفق هذا الشعور تتكون الغربة في معناها الاقتصادي، وقد تكون ثقافية باغتراب الفرد عن عادات مجتمعه وسلومها وقواعد حياتها، فيتحول الفرد المغترب ثقافيًّا إلى كائن افتراضي لا يعرف غير نفسه ولا يتحدث إلا معها، وقد يكون الاغتراب اجتماعيًّا فلا يتفاعل مع غيره ولا يجد طريقًا لتكوين علاقات مع أشخاص يجعلهم أصدقاء له، فيشعر بالغربة الاجتماعية لبعده عن غيره وعدم قدرته على الحياة الودِّية العميقة معهم، ولعل أخطر أنواع الاغتراب هو الاغتراب الديني الذي يعني الانفصال عن الاتصال بالله اتصالا إدراكيّا بعيدًا عن الشك المرضي والتعبد الروتيني، وهذا الاغتراب سأخصص له مقالة مطولة فيما بعد.
تشكل الصعوبات التي يواجهها الفرد في عصرنا سببًا في توجهه للاغتراب والبحث عن عوالم افتراضية تخفف عليه وطأة الواقع الذي ما عاد يطيقه، ولعل مواقع التواصل الاجتماعية أبرز هذه العوالم وأكثرها كثافة، وقد اقترح ابن باجة -الفيلسوف الأندلسي- فكرة العالم الافتراضي في تدبير المتوحد فجعل الصداقة والارتباط بشخصيات غير واقعية -كأفلاطون وأرسطو- سبيلا لنشوء صداقات يتحدث معهم الفرد بالقراءة في كتبهم ونقاشهم في أفكارهم كأنهم معه، والكتاب على صغره عميق في تبيان هذه الفكرة.
تعمل مواقع التواصل على طرد الاغتراب بإيجاد الفرد لمشابه له بالفكر والنفس، هكذا ظن مستخدمها أول الأمر لكنه اكتشف خلاف ذلك مع التجربة، فوجد هذه المواقع سببًا رئيسًا للغربة والشتات والحرث في البحر، يحاول أن يعرف من يشابهه لكنه ما وجد إلا من يمثل جانبه المظلم الهزيل فصار يتابعه كي يعالج هذا الجانب فيه وليس لوجاهة ما يراه، ولهذا تجده يتابعه ويلعنه في وقت واحد، وهذا يزيد غربة الفرد ويكثف اضطرابه.
يبدأ اغتراب الفردِ بخطوات قد لا يعيها بادئ الأمر، ولعلَّها تدخل كلها في مفهوم واحد هو التخلِّي، فتخلِّي الفرد عن قيمه الدينية والوطنية والأسرية تجعله يُميع ما بُني عليه إدراكه، فيتحول إلى تابع لغيره ومنفذٍ لرغباته وأوامره، وهو بذلك يسلك طريق الاغتراب عن نفسه حتى يصل به الحال إلى الضجر والتأفف من كل ماله علاقة بذاته، وتتحول نفسه -بتعبير كارل يونغ- إلى بيت خَرِبٍ كلَّما عاد إليها شَعَرَ بالنفور.
يتنازل الفرد عن قيمه الكبرى [الأسرة والوطن والدِّين] بجزئيات يسيرة في البداية كما قلنا سابقًا، فالتخلي يؤدي إلى تنازل بالضرورة، والفرق بينهما أن التخلي يكون لا شعوريا سببه هشاشة القيم داخل الفرد حتى صار الخطاب الخارجي قادرًا على استعمارها، أما التنازل فهو شعوري يحدث قصديّا وإراديّا، ولا بد من التركيز هنا على الانتقال من اللاشعور إلى الشعور، أو من التبعية منزوعة الإرادة إلى الفعل المقصود، وهذا يدل على خطورة العادة في نقل صاحبها من الفعل الطبيعي المستهين بما يعتبره تافها لا يصح التدقيق عليه إلى الدفاع والتأصيل والتأويل عن ما كان تافها مرفوضا لكنه داخل في المجاملة والملاطفة، وحين الوعي بهذا الانتقال فإن محاصرة الاغتراب تكون ممكنة.
إن التفكر في مقدمات الاغتراب مهمة وضرورية كي نعرف نتيجته وأسباب الوصول إليه، ويفترض أن يجتهد كل فرد في تكثيف السؤال حول مقدمات غربته وعزلته، فلا يصح التفكير في الأحداث ذاتها لأن ذلك سيؤدي إلى الشعور بتأنيب الضمير المؤدي لتقوية الشعور بالاغتراب، إنما العودة لمقدمات الحدث التي تسببت فيه كي لا يُعاد العمل بها فلا يكون الحدث، وهذه الوقفة الدقيقة بين المقدمات والنتيجة مهمة في الابتعاد عن الاغتراب أو جعله طريقة للتفكير والعيش، ومثال ذلك:
إذا وقعت في حدث الساعة السادسة فلا تبحث وتفكر فيه، إنما عُد لتفكيرك الساعة الخامسة أو الرابعة لتعرف المقدمات التي صنعت الحدث الواقع في الساعة السادسة، وهذا يجعلك تسيطر على المقدمات فلا تكون النتائج، ويجعلك عمليًّا قريبًا من نفسك فلا تغترب عنها بشعور تأنيب الضمير الذي يعني معاونة الذنب على النفس.
طرح الطبيب النفسي راندولف نيس في كتابه: [أسباب وجيهة للمشاعر السيئة] مثالا تصويريًّا مفيدًا لفَهم ضخامة الشعور وضعف تلقِّيه وعلاجه، فقال -بما معناه- أن المشكلة مثل الفيل في ضخامتها، لا يستطيع أحد أن يحتضن الفيل فيكتفي بلمس جزء منه، لكن حين التفكير السليم في كيفية التعامل معه فستعرف كيف تسيطر عليه بمعرفة مداخل معينة تعينك عليه. والاغتراب بنفس الصورة؛ تتغلب عليه بالتفكير في أسبابه لا في نتيجته النهائية، ومن أسبابه:
– معرفة حال النفس وما الذي تحتاجه دون ضرر، ومن جميل ما قاله ابن القيم أن النفس لها ثلاثة أحوال: الأمر بالذنب، ثم اللوم عليه والندم منه، ثم الطمأنية إلى ربها. فالنفس بعد فعلها تغترب عن حقيقتها التي فُطرت عليها، فيعمل الندم والقهر النفسي على إعادتها لحالها الأول، وهذا يجعلك صابرًا متأملا جميلَ ما سيكون لك.
– ليس مهما ما تشعر به، المهم ما تفعله. فقد تشعر بضيق وبغض لحالك وواقعك، وتراه أقل من حقك وتعتقد بالمظلومية، فإن كنت كذلك فلا تلتفت لهذه المشاعر العابرة واعمل واجتهد لأن الإنجاز الحقيقي الباقي هو العمل لا الشعور العابر.
– توسط في كل أمورك ولا تستعجل الثمرة، فالغربة لا يخلقها مثل الاستعجال وتجاوز الحدود، وإعطاء الفرد نفسه ما يفوق قيمته المستحقة، فتدخله تلك الخديعة عوالم تصيره ضعيفًا منهكًا نفسيًّا، غريبًا عن حقيقته.
– لا تُحوِّل لغتَك إلى فضاء غريب عنك بجعل كل أحاديثك تعود إليك، فكثير من الأفراد لا يسألون، إنما يتظاهرون بالسؤال ليطمئنوا أن الآخر سيقول ما يشبه رغباتهم، كذلك تجدهم يختارون أصدقاء يقوّون بهم أنفسهم فلا يختارون من يسندهم بالنصيحة والتوجيه الصادق وإن خالف رغبتهم، بعد ذلك يشعرون بالغربة لأنهم اكتشفوا حقيقة عنهم خبأها أقرب الناس إليهم، فالغربة هنا نتيجة الصدمة.
الحديث عن الاغتراب طويل لا ينتهي، لكن ما كُتب في هذه المقالة قد يفتح بابًا للتأمل، لا لفَهم كلِّ جوانب الاغتراب.
باحث في مجال المناهج النقدية.
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
من أهم مهمّات (الأسرة) أن تكون على مستوىً من الألفة والاجتماع والتحصن والقوة، ما يسهم في صناعة الجيل وتأهيله لإعمار الأرض على الوجه الذي أمر...
إننا اليوم أحوج إلى تثوير هذا النص النفيس في نفوسنا بعد أن أضحت معاينة الخلق لأحوال الإنسان وأعماله وأذواقه مشرعة لكل أحد ، وهذا يزيد...