حين تُبنى السياسات الوطنية للشباب على فهمٍ عميق لواقعهم، تتحول من وثائق توجيهية إلى أدوات تغيير حقيقي. إشراك الشباب، وضوح الأولويات، وربط الأهداف بآليات تنفيذ...
تمثل السياسات الوطنية للشباب انعكاسًا لرؤية الدول في صياغة خياراتها الاستراتيجية المرتبطة برعاية وتنمية الشباب؛ الثروة البشرية الأكثر ديناميكية في المجتمع، حيث تؤثر هذه السياسات مباشرة في واقع الشباب وجودة الخدمات المقدمة لهم؛ إذ تحدِّدُ أولوياتهم وترصد التحديات التي تواجههم وتُطَوِّر الحلول الملائمة لها. كما تُسهم هذه السياسات في رفع كفاءة البرامج الموجهة للشباب من حيث الإنتاجية والفاعلية من خلال تحسين مخرجات عملية تمكين الشباب، وضمان الاستخدام الأمثل للموارد المخصصة لبلوغ أهداف السياسات الشبابية. وعلى المستوى الحكومي، تمثل السياسات الشبابية أداة أساسية لوضع تصورات واقعية لدور الحكومة في خلق بيئة آمنة وداعمة لتمكين الشباب، بما يتوافق مع الإمكانات والقدرات الفعلية المتاحة. كما تُعد مرجعًا محوريًّا لتقييم البرامج والخدمات الموجهة للشباب. أما في القطاع الخاص، فتوفر هذه السياسات فَهْمًا أعمق لاحتياجات شريحة واسعة من المستفيدين، مما يساعد المؤسسات العاملة في هذا القطاع على تطوير منتجاتها وخدماتها وتعزيز عوائدها الاقتصادية. كما أن استثمار الحكومة في تنمية مهارات الشباب وبناء كفاياتهم نتيجة مباشرة لتطبيق السياسات الشبابية، يساهم في إعداد قوة عاملة مؤهلة ومُدَرَّبة، تقلل من التكاليف التي تتحملها مؤسسات القطاع الخاص في تأهيل موظفيها خصوصًا الموظفين الشباب[1]. وعلى صعيد العمل الشبابي، ترسم السياسات الوطنية للشباب المسارات الاستراتيجية لهذا القطاع، وتوجّه جهود المؤسسات العاملة مع الشباب وكذلك ومواردها، نحو المجالات ذات الأولوية، بما يضمن تكامل أدوار هذه المؤسسات ويحقق الشمولية في الاستجابة لاحتياجات الشباب وتطلعاتهم.
ويُعرف مفهوم السياسة الوطنية للشباب بأنه ”الإطار العام أو خطة العمل التي تتبعها حكومة ما تجاه فئة الشباب، وتمثل إعلانًا عمليًّا عن الأولويات والتوجهات التي تنوي بلد ما أن تتبنَّاها بهدف تنمية الشباب في هذا البلد. كما تعدُّ السياسة الوطنية للشباب إعلانًا من الحكومة عن التزامها بوضع وتحقيق أولويات واحتياجات تنمية الشباب، بالإضافة إلى تحديد دور الشباب في المجتمع ومسؤولية هذا المجتمع تجاه الشباب“.[2] وبحسب آخر تقرير صادر عن مركز مختبرات سياسة الشباب[3] حول حالة السياسات الشبابية في العالم، فإن هناك 131 دولة من أصل 198 دولة حول العالم تمتلك سياسة وطنية للشباب، و27 دولة أخرى تعمل على إعداد سياسة جديدة أو مراجعة سياستها الحالية، في حين لا تمتلك 89 دولة أي سياسة وطنية للشباب في الوقت الراهن.[4]
تتباين المنهجيات المتبعة في إعداد وصياغة السياسات الوطنية للشباب بين الدول، غير أن معظمها يتضمن خطوات مشتركة؛ وهي:
- تكوين فريق مختص لتطوير السياسة الشبابية، ويضم هذا الفريق ممثلي أصحاب المصلحة من المؤسسات المعنية بفئة الشباب.
- إجراء دراسة بحثية لتحديد أولويات الشباب والتعرف على المصاعب والتحديات التي تواجههم.
- مراجعة الدراسات والتقارير المحلية والدولية المتعلقة بفئة الشباب للتعلم من التجارب السابقة في تطوير السياسات الشبابية وتحديد مواطن التحديث والتطوير.
وغالبا ما تأخذ عملية إشراك الشباب في إعداد السياسات الشبابية حيزًا مهمًّا من اهتمام واضعي السياسات، حيث تتبع الدول منهجيات مختلفة لضمان مشاركة الشباب في إعداد السياسة الشبابية، مثل:
- تكوين المجالس الاستشارية للشباب بهدف المشاركة في إعداد السياسة عبر تقديم المقترحات والأفكار حول الجوانب المهمة التي يجب على متخذي القرار مراعاتها عند صياغة السياسة حسب وجهات نظر الشباب.
- تنظيم المؤتمرات والجلسات التشاورية مع الشباب وممثلي المنظمات والمجموعات الشبابية لِتَعرُّفِ وجهاتِ نظرهم حول المسارات الاستراتيجية التي ينبغي أن تتخذها الدولة في عملية تمكين الشباب؛ لضمان تطبيق وجهات نظرهم في الوثيقة النهائية.
- تحديد وإشراك أصحاب المصلحة المعنيين بقضايا الشباب من المؤسسات الحكومية والخاصة والأهلية. حيث تعمل السياسات الشبابية على رسم خارطة عن وضع الشباب في الدولة وتحديد أدوار أصحاب المصلحة في الاستجابة لقضايا الشباب ورفع جودة حياتهم.
- الصياغة الأولية للسياسة وعرضها على صناع القرار وأصحاب المصلحة للمصادقة عليها قبل عرض السياسة للجمهور والترويج لها.
أما من حيث المكونات، فإن السياسات الوطنية للشباب رغم اختلافها من بلد لآخر بحسب اختلاف المنهجية المتبعة في صياغتها، تتقاطع حول ركائز أساسية لا تخلو منها هذه السياسات باختلاف بلدانها. حيث حدَّدت المعايير الدولية للسياسات الوطنية للشباب أهم عناصرها، وهي:
- وجود أهداف محددة.
- يجب أن تتضمن استراتيجيات وبرامج ومشاريع.
- يجب أن تحتوي على أنشطة وخطوات ملموسة.
- تحديد مجموعة مستهدفة يحددها تقييم الاحتياجات والبحوث المسحية.
- وجود إطار زمني محدد لتطبيق موجهات ومستهدفات السياسة الشبابية.
- وجود مؤشرات لمدى تأثير السياسة.
- توفر معايير لقياس التقدم والنجاح.[5]
كما أن هناك ملامح رئيسية للسياسات الوطنية الموجهة للشباب، فهي تتضمن:
- تعريفًا بفئة الشباب المستهدفة في تلك الدولة.
- تُفْرِدُ لكل سياسة جزءًا خاصًّا فتوضح الرؤية والأهداف التي تريد بلوغها في تمكين ورعاية الشباب.
- تحتوي السياسات الشبابية على شرح للمنهجيات المُتَّبعة في عملية الإعداد والصياغة.
- تشكل قضايا الشباب ذات الأولوية ركيزة أساسية من محتوى السياسات الوطنية للشباب، حيث يتم تحديد المجالات التي ستركز عليها السياسة الشبابية.
- توضيح التوجهات الاستراتيجية التي ستتبعها الدولة في تنمية الشباب.
- تستعرض السياسات الوطنية للشباب إطار العمل الذي يحدد آليات تنفيذ مستهدفات السياسة الشبابية، والذي يظهر أحيانًا في بعض السياسات الشبابية في شكل أبرز البرامج والمبادرات التي تترجم السياسة الشبابية إلى خطوات عملية.
ونظرًا للتطورات المتسارعة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تؤثر مباشرة على فئة الشباب، أصبحت عملية التقييم والتطوير الدوري للسياسات الشبابية ورصد نتائجها وآليات تنفيذها أمرًا بالغ الأهمية إذا ما أردنا أن نعظم أثر هذه السياسات على واقع الشباب، ونزيد من فرص مساهمتهم في تحقيق التنمية الشاملة.
على المستوى المحلي، أطلقت حكومة المملكةِ الاستراتيجيةَ الوطنية للشباب عام 2013م، حيث حددت الاستراتيجيةُ ملامَح رؤية المملكة في تنمية شبابها، وذلك عبر ثمانية محاور شكلت المجالات ذات الأولوية والتركيز في خدمة ورعاية الشباب السعودي وهي التعليم، والتدريب، والعمل، والصحة، والثقافة، والإعلام، والاتصالات، وتقنية المعلومات[6]. ومع إطلاق رؤية السعودية 2030 وما تبعها من تحولات كبرى، برزت الحاجة إلى تطوير السياسات الموجهة للشباب لمواءمتها مع المتغيرات الراهنة، وتعزيز قدرتها على تحقيق أثر إيجابي في حياة الأجيال الصاعدة، وتمكينهم من لعب دور فاعل في عملية التنمية والاستجابة لمتطلبات المستقبل. مما قاد حكومة المملكة إلى إطلاق استراتيجية التنمية الشبابية الجديدة المنبثقة من رؤية السعودية 2030 وأطلقتها في عام 2024م، لمواصلة العمل على تعزيز قدرات الشباب وتعزيز مشاركة الشباب في عملية صناعة القرار ومشاركتهم المجتمعية، ورفع مستوى تنافسيتهم دوليًّا في سبيل تقدم المملكة في مؤشرات تنمية الشباب[7]. مع إيلاء اهتمام خاص بتطوير منظومة العمل الشبابي من خلال عدة برامج في مجالات الأنظمة والتشريعات للعمل الشبابي، وبناء قدرات العاملين مع الشباب.
أما على المستوى الدولي، فقد شكلت التجربة الأسترالية مثالًا بارزًا؛ إذ أطلقت الحكومة الأسترالية أول سياسة وطنية للشباب في عام 2010م إطارًا رسميًّا للتعامل مع قضايا الشباب، حيث وضّحت الاستراتيجيات الرئيسة التي تتبناها الحكومة الأسترالية لتنمية شبابها. وفي عام 2021م، جرى تحديث السياسة الوطنية للشباب، فقد جاءت إلى حد كبير استجابةً لتداعيات جائحة كورونا على جودة حياة الشباب. فركزت على الجوانب التالية:
- تعزيز الصحة العامة للشباب.
- تطوير السياسات التعليمية.
- إيجاد حلول بديلة لتوظيف الشباب.
- تطوير آليات التدريب.
- زيادة مشاركة الشباب في مختلف القطاعات.
ثم قامت الحكومة الأسترالية في الأعوام التالية لجائحة كورونا بتشكيل فِرَق استشارية من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 إلى 25 عامًا للعمل على تحديد المجالات ذات الأولوية لتنمية الشباب الأسترالي، وتطوير السياسة الوطنية للشباب تحت إشراف مكتب شؤون الشباب في وزارة التعليم. ضمت هذه المجموعات خمس لجان استشارية تعمل مع الحكومة بالتركيز على خمسة محاور أساسية وهي:
- قضايا السكان الأصليين.
- الصحة العقلية والوقاية من الانتحار.
- تعزيز مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM).
- قضايا التغير المناخي ومؤتمر الأطراف COP28.
- محور (البيئة الآمنة والداعمة) الذي يركز على دعم ومساندة الشباب[8].
حيث شكلت هذه المجالات ملامح التوجهات الاستراتيجية لتنمية الشباب في أستراليا. كما أنشأت الحكومة لجنة قيادية تضم 15 شابًّا وشابة تتراوح أعمارهم بين 13 إلى 24 عامًا لتعمل مع وزير شؤون الشباب في التصميم المشترك لمبادرات ومشاريع السياسة الجديدة [9]. وقد أثبتت هذه الجهود جَدْوَاها، حيث حققت نتائج إيجابية في الفترة القصيرة التي طُبقت فيها. فعلى سبيل المثال، أظهرت نتائج دراسة أجرتها مفوضية الانتخابات الأسترالية زيادة نسبة مشاركة الشباب في الانتخابات العامة، حيث بلغت 90.3% في عام 2023م [10].
وبناءً على ما سبق، يتضح أن إشراك الشباب في جميع مراحل صياغة وتطوير السياسات الموجهة إليهم يمثل عنصرًا جوهريًّا لضمان تلبيتها لاحتياجاتهم وتعبيرها عن آمالهم وتطلعاتهم. كما أن وضوح الرؤية والأهداف وآليات التنفيذ من أهم العوامل التي تساعد على نجاح السياسات الشبابية في بلوغ أهدافها، حيث يساعد هذا الأمر المؤسسات المعنية بالعمل مع الشباب على استيعاب التوجهات العامة في تنمية الشباب، مما يمكنهم من تنزيلها إلى برامج عملية قابلة للتنفيذ، وبذلك تزداد فرص بلوغ مستهدفات السياسات الشبابية. ومن هنا تنبع أهمية ترويج السياسة الشبابية واستخدام أدوات فعالة من شأنها أن توضح مضمون السياسة للجمهور والمعنيين بجاذبية وبساطة، وأيضًا فإنَّ تبني المؤسسات العاملة مع الشباب لموجهات السياسة وإيمانهم بالخيارات الاستراتيجية التي تتخذها الدولة في تمكين الشباب من العوامل الأساسية التي تساهم في إنجاح السياسات الشبابية.
المراجع
- A comparative analysis on National Youth Policies, Alicja Lelwic-Ojeda and Lukmon Akintola, October 2024.
- تقرير أفضل الممارسات الدولية في مجال السياسات العامة ونظم حوكمة قطاع الشباب، دراسة معيارية لأفضل السياسات الشبابية في العالم، مركز الشباب العربي 2022م.
- السياسات المتعلقة بالشباب: المفهوم ونماذج العمل، كامل النابلسي 2018م.
- موقع مجلس الشورى السعودي على الانترنت https://www.shura.gov.sa
- الموقع الرسمي لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية على الإنترنت https://www.hrsd.gov.sa
[1] السياسات المتعلقة بالشباب: نماذج عمل، كامل النابلسي، مارس 2018
[2] مفهوم السياسات المتعلقة بالشباب، كامل النابلسي 2018
[3] مركز فكر افتراضي معنيّ بتطوير سياسات الشباب، أُنشئ عام 2010 ويتبع إحدى المنظمات الألمانية غير الحكومية.
[4] تقرير مختبرات سياسة الشباب، Youth Policy Labs، يونيو 2021
[5] المعايير الدولية للسياسات الوطنية للشباب، يحيى الوزكاني، أغسطس 2018.
[6] تقرير جلسة مجلس الشورى السعودي الرابعة والعشرين من أعمال السنة الأولى للدورة التاسعة، يناير 2014م.
[7] تقرير وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية عن إطلاق استراتيجية التنمية الشبابية، يناير 2024م.
[8] Office for Youth, “Youth Advisory Groups,” Australian Government
[9] Office for Youth, “Youth Steering Committee,” Australian Government.
[10] Australian Electoral Commission, “National Youth Enrolment Rate,” AEC, July 2023
مرشاد
المزيد من المقالات
- All Posts
- عام
- مقالات
- نشرتنا
الشباب لا يبحثون عمّن يملي عليهم الطريق؛ بل عمّن يشاركهم اكتشافه” كيف ننتقل من البرامج التقليدية إلى حلول مبتكرة تُشعل الشّغف وتَصنع الأثر ؟ تستعرض...
يستعرض هذا المقال الدور الريادي للشباب السعودي في صناعة التنمية الوطنية والمجتمعية، واستثمار طاقاتهم في الإبداع والابتكار ضمن مستهدفات رؤية 2030. كما يدعو إلى بناء...