
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
لقد قارب حدس آندي وارول (Andy Warhol) الصواب حين تنبأ بمقولته الشهيرة “في المستقبل، سيكون بقدرة أي شخص أن يحظى بـ 15 دقيقة من الشهرة”.[1] فقد بات لدى الفرد القدرة على البروز في مواقع التواصل الاجتماعي والوصول إلى الجماهير العريضة والتي تسبح في سيل المحتوى الرقمي الغامر الذي لا ينضب. ومع الظهور، بغض النظر عن كونه ظهورًا حسنا أو سيئا، تأتي الشُهرة والأضواء ويتبع ذلك ما يتبعه من مال، وجاه، ومنصب. ومع هذه المزايا والصلاحيات، فإن الشهرة ولابد، هي غاية يسعى إليها الشباب لتحقيق ما لم يحققه الانزواء والبعد عن الأضواء. وتحسُن الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية تنظر إلى الشهرة وطلبها كغاية وهاجس في النفس، على أنه أمر مذموم غير محبب فيه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).[2] وهو منافٍ في بعض الأحيان، لمفاهيم متجذرة وعميقة في الدين الإسلامي، كالإخلاص لله وحده، والإخبات له، والتواضع للخلق وعدم التعالي عليهم، وغيرها. ولسنا في مقام الحديث عن الشهرة من الناحية الدينية الشرعية، ولكنا في هذا المقال بصدد التعرف أكثر على ظاهرة الشهرة الرقمية الحديثة، كيف نشأت؟ وماهي بواعثها؟ وما قد تؤول إليه من الجانبين النفسي والاجتماعي؟
ولا أستبعد أنه قد خطر في ذهن القارئ أسئلة وأجوبة من ذكريات الطفولة كسؤال “ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟”، ثم تذكَّر إجابات من أمثال “أريد أن أصبح معلما، طبيبا، رائد فضاء، الخ..” ولم تكن في تلك القائمة أي شي من قبيل “يوتيوبر، فلوقر، أو مؤثرا اجتماعيا على وسائل التواصل”. وربما قد يكون هذا مستساغا ومنطقيا، إذ أن المنظر العام للوظائف والأعمال يتغير بتغير الأزمنة. فلقد أدخلت الثورة الصناعية مفهوم العمل بدوام كامل مع تحول العمل في المصانع إلى المعيار الجديد في العديد من الصناعات.[3] وبحلول منتصف القرن العشرين، أصبح أسبوع العمل بنظام “من التاسعة إلى الخامسة” وهيكل 40 ساعة أسبوعيًا أمرًا شائعًا في الدول المتقدمة، خصوصًا في قطاعات التصنيع والشركات. كما أسهمت قوانين العمل في توفير حماية للعمال، مما خلق بيئة عمل مستقرة وطويلة الأجل للموظفين. ووفرت الوظائف بدوام كامل ساعات عمل منتظمة، ومزايا، وأمانًا وظيفيًا، لتصبح العمود الفقري للقوى العاملة لعقود. ولكن التحولات الاقتصادية والركود في السبعينيات والثمانينيات دفعت الشركات إلى استكشاف خيارات عمل أكثر مرونة.[4] ازداد انتشار الوظائف بدوام جزئي في صناعات مثل التجزئة والضيافة، مما وفر لأصحاب العمل حلول توظيف بتكاليف أقل. وفي الوقت نفسه، برز العمل التعاقدي في القطاعات التي تتطلب مهارات متخصصة لفترات زمنية مؤقتة. أدى ذلك إلى تحول كبير حيث أصبح عدد متزايد من الموظفين يعملون دون ضمانات طويلة الأجل أو المزايا التي كانت توفرها الوظائف بدوام كامل في السابق. كل تلك التحولات السريعة والمصاحبة للثورة الرقمية الحديثة، قد أحدثت مفاهيم جديدة لعالم الوظائف والأعمال، وخلقت وظائف خارجة عن بوتقة نظام ٩-٥ المعروف.[5] وفي هذه الأثناء، ظهرت لنا ومع صعود وسائل التواصل الاجتماعي مصطلحات مثل “مؤثروا وسائل التواصل – Social Media Influencer”. وتستخدم الدراسات العلمية مصطلح “المؤثر” كاصطلاح شامل يشمل المدونين بشكليه البصري والروائي، والنشطاء، والكوميديين، وفناني الرسم الكوميدي، وغيرهم من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين ينظرون إلى متابعيهم على أنهم جماهير.[6] وليس كل مؤثر اجتماعي هو مشهور بالضرورة، ولكن تم وضع العدد الأدنى للمتابعين كمقياس للشهرة لدى الكثير من الشركات التسويقية. وإن الشركات التسويقية والإعلامية تصنف الشهرة بمقياس عدد المتابعين إلى أصناف عدة، نرجئ ذكرها في مواضع أخرى، ولكن وبشكل عام فإن المؤثر يصبح مشهورا إذا زاد عدد متابعيه عن المئة ألف متابعا في أي من منصات التواصل الاجتماعي كما أشارت دراسة جوميز (٢٠١٩). والغاية أن التحولات الاقتصادية والتكنولوجية أعادت تشكيل عالم الوظائف والأعمال، لتفتح آفاقًا جديدة خارج الإطار التقليدي، مما أنتج جيلا ينظر إلى الشهرة والظهور الإعلامي بمناظير وعدسات مختلفة.
وعلى الرغم من أن ما ذكرنا للتو هو فقط تفسير لعملية ظهور مشاهير العالم الرقمي، فإن ذلك لا يعني بالضرورة شيطنة المشاهير والمؤثرين أو من أراد السير على خطاهم، ولكن العالم العربي يشهد هوسًا ولهاثا غير مسبوق من قبل الشباب والمراهقين للظهور واللحاق وراء الشهرة ولو كان ذاك على حساب الدين والمبادئ والقيم الإسلامية أو الإنسانية. فلقد شهدت المنطقة العربية خلال العقد الأخير طفرة كبيرة في استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ تمثل الفئة العمرية من 13 إلى 24 عامًا شريحة واسعة من المستخدمين. في ظل هذا الواقع، باتت الشهرة متاحة للجميع تقريبًا، مما عزز سلوكيات البحث عن الانتباه وجذب الإعجاب عبر المنصات الرقمية. وقد ظهر ذلك بشكل واضح في انتشار التحديات الخطيرة، والمحتوى المثير للجدل، والتركيز على الصورة الخارجية أكثر من المحتوى القيم. ويتضح جليا أن سعي الشباب وراء الشهرة قد لا يكون من أجل المال والمادة فحسب، بل أن الشهرة والأضواء -كما يتخيل كثير من الشباب- قد تمنح الإنسان قيمة الذات، والشعور بالانتماء، والأمان.[7] وقد ذكرت دراسات عدة كانت تهدف لرصد بواعث الشباب للسعي وراء الشهرة على وسائل التواصل الاجتماعي، فوجدت أن:
وكما أشرنا، فإن الشاب قد يلجأ في رحلته للسعي خلف الأضواء إلى ممارسات شاذة خارجة عن الإطار الأخلاقي والقيمي أو الذهاب للتصوير في أماكن خطرة أو صادمة، وذلك في سبيل إضفاء عنصر الصدمة أو الغرابة للمحتوى الذي يقدمه وذلك لتحصيل المشاهدات أو الوصول إلى الجماهير بشكل أسرع.[9]
ولعل من أهم مآلات تحصيل الشهرة هو المسؤولية الاجتماعية، وجعل مؤثري التواصل الاجتماعي قدوات يقتدي الشباب والأطفال بهم.
وقد نرى في كثير من الأحيان أن أحد العوامل الرئيسة للهاث خلف الشهرة هو الاقتداء بمؤثري التواصل الاجتماعي من الأساس. فالاقتداء بالمشهور يولد لاهثين كثر للشهرة، فنكون قد دخلنا في دوامة وحلقة مفرغة من اللهاث خلف الشهرة. ولأن المؤثر أو المشهور قد أصبح لديه قاعدة جماهيرية عريضة، فإنه قد أصبح لديه دور يمارسه تجاه المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية. إلا أن هذا الدور لا يُمارس دائمًا بالجدية المطلوبة، حيث يظهر لدى العديد من المؤثرين ميل للاستعراض أو تقديم محتوى سطحي يفتقر إلى القيمة الحقيقية. قد ينبع هذا من ضغط السوق الرقمي الذي يُشجع على تحقيق المزيد من المشاهدات والتفاعلات بغض النظر عن نوعية المحتوى. وهذا الواقع يخلق مفارقة: بينما يُتوقع من المؤثرين لعب دور أخلاقي واجتماعي، فإن بيئة العمل الرقمية غالبًا ما تدفعهم للتخلي عن تلك المسؤولية لصالح أهداف مادية وشخصية. وهنا يجد الشباب، والذين هم يشكلون شريحة واسعة من المتابعين، أنفسهم عالقين بين محاكاة هذه النماذج وبين إدراك القيم والمبادئ الحقيقية التي ينبغي عليهم اتباعها. هذه الظاهرة تُبرز تحديًا اجتماعيًا كبيرًا، حيث يتحول المؤثر من كونه مصدر إلهام إلى نموذج سلبي يعزز النزعة الاستهلاكية والممارسات غير المسؤولة.[10] ومع هذا، لا يمكن إنكار أن جزءًا من المسؤولية يقع على عاتق الجمهور نفسه، الذي يساهم بمتابعاته وإعجاباته في تعزيز هذه الأنماط. وهو أيضا مسؤولية الأهل والتعليم لغرس الثقة في الشباب وإعطائهم التقدير والثقة اللازمين، ونشر فكرة أن الإنجاز ليس في أن تُرى، ولكن في أن تُحدث أثرا. في نهاية المطاف، تصبح الشهرة سلاحًا قادرا على بناء الوعي المجتمعي أو هدمه، وذلك بحسب وعي المؤثرين والجمهور بدورهم المشترك في تشكيل هذا الفضاء الرقمي.
“الإنجاز ليس في أن تُرى، ولكن في أن تُحدث أثرًا”
نخلص هنا إلى عدة ظواهر شكّلت فضاء الشهرة الرقمي مثل التحول التقني والابتعاد عن طبائع العمل التقليدي إلى أعمال ووظائف أكثر مرونة وتنوعا. فالنظرة للشهرة في هذا الفضاء الرقمي كوسيلة لطلب الرزق أو الغنى قد أحدث هوسا في عالم الشباب للسعي وراء تلك الشهرة، خصوصا أن الوسائل الموصلة لذلك قد أصبحت بين أيديهم. وهنا نذكر عدة نصائح ومقترحات في هذا السياق:
١.تعزيز الثقة بالنفس والمبادئ الأخلاقية المستوحاة من الشرع الإسلامي:
إن تعزيز ثقة الشباب بأنفسهم وقيمهم من أهم الأمور التي تعين في التصدي لعدم الانجرار خلف الموجات الرقمية أو الاستسلام لضغط الشركات الرقمية أو المعلنين
٢. المحتوى أولاً، وثانياً، وثالثاً:
إن تقديم محتوى هادف وثري هو مثل السباحة عكس التيار، وذلك لأن الجمهور الأعم لا يبحث بالضرورة عن الفائدة، بل قد ينجذب نحو المحتوى المثير أو الترفيهي. ومع ذلك، فإن الالتزام بتقديم محتوى يحمل قيمة مضافة يعزز المصداقية على المدى الطويل، ويخلق تأثيرًا إيجابيًا مستدامًا. من المهم أن يسعى الشباب والمؤثرون إلى بناء محتوى يرتكز على القيم والمبادئ، مع الابتكار في تقديمه بشكل جذاب ومشوق.
٣. التربية الإعلامية والتثقيف الرقمي:
تعليم الشباب كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بوعي ومسؤولية يعد من أهم الأدوات لمواجهة هوس الشهرة الرقمية. يشمل ذلك فهم خوارزميات المنصات، وكيفية تقييم المحتوى، والتمييز بين التأثير الإيجابي والسلبي. كما يجب أن تتبنى المؤسسات التعليمية والأسر مبادرات تهدف إلى تعزيز مهارات التفكير النقدي لدى الشباب، مما يمكّنهم من مقاومة الضغوط السلبية التي تفرضها ثقافة الشهرة.
٤. إعادة تعريف مفهوم النجاح:
يجب أن نعمل على تغيير المفهوم السائد عن النجاح، بحيث لا يرتبط بعدد المتابعين أو الإعجابات، بل يرتكز على تحقيق إنجازات فعلية ومؤثرة في الحياة الشخصية والمهنية والاجتماعية. إن توجيه الشباب نحو قيم الإبداع، والإنتاجية، والخدمة المجتمعية يسهم في خلق جيل يسعى لترك أثر إيجابي بدلاً من مجرد السعي للظهور. فالشهرة هي تحصيل حاصل.
٥. فهم الشباب في الفضاء الرقمي:
من الضروري أن نتعامل مع طموح الشباب لطلب الشهرة بوعي وتفهم، بدلاً من زجرهم التام أو انتقادهم بشكل مباشر. ينبغي توجيه الشباب الساعين لتحقيق الشهرة بوعي وحرص، مع مراعاة المسؤولية الاجتماعية والقيم الأخلاقية. يمكن أن تكون الشهرة في الفضاء الرقمي وسيلة فعالة لنشر الخير، وإحداث تأثير إيجابي إذا ما تم استثمارها بالشكل الصحيح. على الأسرة، والمؤسسات التربوية، وصناع القرار أن يعملوا على خلق حوار مفتوح مع الشباب، يشجعهم على التفكير في عواقب الشهرة ويحثهم على اتخاذها كوسيلة لبناء مستقبل أفضل، بدلاً من أن تكون غاية فارغة.
_____________________________
[1] معرض أعمال وارول – ١٩٦٨م
[2] أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح
[3] Nardinelli, 2018
[4] Muffels, 2014
[5] Muffels, 2014
[6] Duffy & Hund, 2015
[7] Ryan, 1993
[8] Gountas et al., 2012
[9] Skavronskaya et al., 2019
[10] Ki & Kim, 2019
المراجع الأجنبية:
Duffy, B. E., & Hund, E. (2015). “Having it all” on social media: Entrepreneurial femininity and self-branding among fashion bloggers. Social Media + Society, 1(2). https://doi.org/10.1177/2056305115604337
Gountas, J., Gountas, S., Reeves, R. A., & Moran, L. (2012). Desire for fame: Scale development and association with personal goals and aspirations. Psychology & Marketing, 29(9), 680-689. https://doi.org/10.1002/mar.20554
Industrial Revolution and the standard of living. (2018, June 27). Econlib. https://www.econlib.org/library/Enc/IndustrialRevolutionandtheStandardofLiving.html
Ki, C. ‘., & Kim, Y. (2019). The mechanism by which social media influencers persuade consumers: The role of consumers’ desire to mimic. Psychology & Marketing, 36(10), 905-922. https://doi.org/10.1002/mar.21244
Muffels, R. J. (2014). Flexibility and employment security in Europe. Edward Elgar Publishing.
Ruiz-Gomez, A. (2019). Digital fame and fortune in the age of social media: A classification of social media influencers. aDResearch ESIC International Journal of Communication Research, 19(19), 08-29. https://doi.org/10.7263/adresic-019-01
Ryan, R. M. (1993). Agency and Organization: Intrinsic Motivation, Autonomy and the Self in Psychological Development.
Skavronskaya, L., Moyle, B., Scott, N., & Kralj, A. (2019). The psychology of novelty in memorable tourism experiences. Current Issues in Tourism, 23(21), 2683-2698. https://doi.org/10.1080/13683500.2019.1664422
أخصائي نفسي وباحث في مجالات علم النفس
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
من أهم مهمّات (الأسرة) أن تكون على مستوىً من الألفة والاجتماع والتحصن والقوة، ما يسهم في صناعة الجيل وتأهيله لإعمار الأرض على الوجه الذي أمر...
إننا اليوم أحوج إلى تثوير هذا النص النفيس في نفوسنا بعد أن أضحت معاينة الخلق لأحوال الإنسان وأعماله وأذواقه مشرعة لكل أحد ، وهذا يزيد...