نحو تأهيل الشباب لتحمل المسؤولية

تعد مرحلة الشباب مرحلة القوة بامتياز، قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم : 54]، فهي مرحلة العطاء ومرحلة تحمل المسؤولية بكل تجلياتها، سواء تعلق الأمر بمسؤولية الأسرة أو العمل المهني، وصولا إلى المسؤوليات الكبرى في التعليم والاقتصاد والسياسة … بقصد النهوض بالمجتمع وتطويره في مختلف المجالات.

إن تحمل الشباب للمسؤولية يتطلب إعدادهم وتدريبهم على مهاراتها وقدراتها، خاصة أن الأمة إنما تكون قوية بقوة شبابها، وبما يمتلك شبابها من مؤهلات علمية وخلقية ونفسية.
 وهذا السن هو الذي تتجه النصوص إلى استثمار الشاب فيه بتحميله الأعباء الكبيرة والمهام العظيمة، وفيه غالب من أمْرهم النبي صلى الله عليه وسلم وحمْله الولايات الكبيرة والقضاء، ونحو ذلك .
فالبالغ ذو نفس قادرة على العطاء والتضحية، نفس صالحة لتكون عماد الحضارات، كما أثبت التاريخ؛ وبذلك استحقت الثقة في قدراتها النفسية وغيرها، وهنا يأتي دور المربين في الثقة بهذه النفس البالغة للتو؛ فتوكل إليها المهام العظام؛ لأنها ذات همة عالية قادرة. 
 
ومن أهم المهارات التي نحتاج في عصرنا إلى تدريب الشباب عليها في وقت مبكر، أعني قبل مرحلة الشباب ما يلي:
 
  • مهارة القدرة على الحوار والتواصل: التواصل والحوار من أبرز العناصر في بناء وتطوير الشخصية، فكل الأعمال تبدأ بالكلمة والكلمة هي المفتاح، ولابد من تدريب الأطفال قبل الشباب على اكتساب مهارة القدرة على الحوار الفعَّال والتواصل بأسلوب جيد، وذلك يتطلب محاربة الخجل والتشجيع على حضور اللقاءات والمجالس التي تتيح فرصًا للإنصات والحوار والمناقشة واكتساب الجرأة في الكلام.

ونذكِّر في هذا السياق بحديث ابن عمر رضي الله عنه في سؤال الرسول عليه السلام عن الشجرة: فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم حدثوني ما هي فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبد الله فاستحييت، فقالوا يا رسول الله أخبرنا بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. قال عبد الله فحدثت أبي بما وقع في نفسي فقال لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا.  وهذا فيه دلالة واضحة على حضور الأطفال لمجالس الكبار.

وعن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها – زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السن -: أرأيت قول الله تبارك وتعالى {إن الصفا والمروة من شعائر} [البقرة: 158] الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، فلا أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: ” كلا، لو كانت كما تقول: كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى “: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]، وهذه شجاعة في السؤال عما استشكل قبل مرحلة الشباب، لأنه كان حديث السن، وهذا اللفظ لا يكون إلا قبل مرحلة الشباب.
 وفي هذا الحديث إشارةٌ أخرى لا تقلُّ أهميةً وهي توجيه السؤال للثقة، أي تدريبهم على اختيار من يتوجهوا إليه بالسؤال، فالعلم إنما يؤخذ عن الثقة.
 
  • مهارة تدبير الخلاف والنزاع: إن امتلاك مهارة التواصل الفعال تمكن الشباب من امتلاك مهارة أخرى لا تقل أهمية، وهي مهارة تدبير الاختلاف وحل النزاع، ذلكم أن قيم التواصل وأخلاق الحوار مساعدة على خلق أجواء هادئة وإيجابية بين مختلف الأطراف المتحاورة، مما يكون له الأثر الطيب على تقبل الحق واحترام رأي الطرف الآخر، ومن ثمة الخروج بنتائج إيجابية تثمر التعاون والمحبة والمودة دون الوقوع في الخصام والنزاع والقطيعة، وقد دعا سبحانه وتعالى إلى الرحمة في الخطاب، فقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران : 159]، فالكلام الطيب واللِّين والرفق وتجنب الشدة والغلظة كلها قيم تحفظ الحوار والتواصل وتمنع الخصام بين الأطراف المشاركة في الحوار والمناقشة، وفي هذا السياق أيضا دعا الله عز وجل إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن فقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت : 46].
فاختيار أحسن الألفاظ والأقوال والصبر على الطرف المحاور كلها قِيَم مساعدة على الوصول إلى نتائج طيبة، وتدبير الاختلاف الحاصل، هذا بشكل عام، أما على مستوى بعض العلاقات الخاصة فقد بين الله عز وجل منهجًا لتدبير الاختلاف بين الزوجين، أساسه الموعظة الحسنة والكلمة الطيبة. 
 
  • مهارة الابتلاء بتحمل بعض المسؤوليات في سن مبكرة: مما ينبغي الاهتمام به في تأهيل الشباب وإعدادهم لتحمل المسؤوليات الكبيرة والجسيمة، أن يتم تكليفهم منذ مرحلة التمييز ببعض المهام، وذلك من قبيل التسوق وأداء مستحقات معينة (فواتير ماء وكهرباء…)، والنيابة عن الآباء في بعض المسؤوليات .. ومعلوم أن شباب الصحابة رضوان الله عليهم تحملوا مسؤوليات كبيرة في عنفوان الشباب، ويكفي أن نتوقف عند حدث الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة لنجد أن الفتية والشباب كان لهم الأثر الكبير في ذلك، فهذا علي رضي الله عنه يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في فراشه، ويبيت فيه لتحمل مسؤولية رد الأمانات إلى أهلها دون أن يخاف بطش كفار قريش، وهذا عبد الله بن أبي بكر ينقل أخبار قوم مكة للرسول صلى الله عليه وسلم بغار ثور، ومثل ذلك يقال عن المهام التي قامت بها كل من أسماء وعائشة رضي الله عنهما، حيث تحمل الجميع مسؤوليات دقيقة بسرية ومهارة عالية مكنت من حفظ خطة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في دليل المقاصد التربوية لمرحلة الشباب: (ولهذا ينبغي للوالدين والمربين تفهم أن مرحلة الشباب هذه، خصوصا بعد الثامنة عشرة، أنها سن العمل وسن التوثب وتحمل المسؤوليات الكبار، سواء في النفير مع ولي الأمر أو في الدعوة إلى الله تعالى.).
والقرآن الكريم يدعو إلى تدريب اليتامى على تحمل المسؤولية المالية قبل مرحلة الشباب، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء : 6]، والآية الكريمة صريحة في تدريب المميز وابتلاءه بالتجربة وذلك بأن يتصرف في بعض ماله، حتى إذا تبين أنه يحسن التصرف ويجلب ربحا وينجح في تجارته تدفع إليه كل أمواله. وهكذا في كل المجالات الاجتماعية والأسرية والتعليمية والثقافية وغيرها. (إن هذا النص القرآني درس بليغ في تدريب الطفل الذي قارب الرشد على تحمل المسؤولية المالية وولوج سوق الشغل والكسب والتجارة، ومثل ذلك يقال في تحضيره لمختلف المسؤوليات.) 
وقد أسند عليه السلام مسؤولية القضاء لعلي رضي الله عنه وهو شاب، فعن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء، فضرب بيده في صدري وقال: (اللهم اهد قلبه وثبت لسانه)، فو الذي فلق الحبَّة ما شككت في قضاء بين اثنين. وعن ابن عمر  رضي الله عنهما قال: عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة؛ فلم يجزني. وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمسة عشر سنة؛ فأجازني.
وهو بذلك عليه الصلاة والسلام يبتليهم بتحمل المسؤولية، ويصنع شخصياتهم القيادية.

  • مهارة القيادة: تحمل المسؤولية بشكل جيد يحتاج إلى صناعة الشخصية القيادية، التي تعرف كيف تقود الناس إلى تحقيق الأهداف والغايات في ظروف جيدة، فالقائد شخص حكيم يعرف كيف يخطط ويدبر لمختلف العمليات التي تحتاجها الجماعة التي يقودها، والأمة في حاجة إلى قادة من الشباب، ولا يكون ذلك إلا بتأهيلهم منذ مرحلة الطفولة ومرحلة البلوغ، وهذا نهج الرسول عليه الصلاة والسلام في إعداد جيل الصحابة من الشباب،  فقد كلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  أسامة بن زيد-رضي الله عنه- لقيادة جيش فيه كبار الصحابة -رضي الله عنهم- وهو دون الثامنة عشر. ومثل هذه المسؤوليات تعلم الشباب القدرة على ترتيب الأولويات، والقدرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات المناسبة للوقت والحال.
  • مهارة حل المشكلات: لابد من تدريب الشباب على مهارة حل المشكلات، ذلك أن تحمل المسؤولية أيا كانت طبيعتها، تتطلب القدرة على التعامل مع المشكلات وتدبيرها بحكمة وجرأة وتعقل. فالحياة عبارة عن سلسلة من المشكلات التي تتطلب حلولا، وكلما كان الشباب أقدر على حل المشكلات ومواجهتها بل وتوقعها قبل حدوثها استطعنا التغلب على الكثير من المعضلات الاجتماعية.
  • الثقة في النفس والقدرة على اتخاذ القرار: الحقيقة أن بناء المهارات السابقة سيمكِّن بشكل مباشر من بناء مهارة الثقة في النفس، باعتبارها من المهارات المهمة في إعداد جيل الشباب لتحمل المسؤوليات، وهذه الثقة تُبنى بالعلم ومصاحبة الفحول، والتربية السليمة منذ الصغر، فترك الفرصة للطفل للإبداع والاختيار وإبداء الرأي كلها عوامل تساعد على اكتساب الثقة في النفس، وتكوين شخصية متوازنة وقوية قادرة على اتخاذ القرارات المناسبة، وتحمل المسؤولية وقيادة الأمة على بصيرة نحو التقدم والازدهار.
  • العمل الجماعي: من المهارات التي تؤهل الشباب لتحمل المسؤوليات بخبرة وأمانة مهارة التعاون والعمل الجماعي، فتربية الشباب على إشراك الآخرين في الرأي، واتخاذ القرارات والتعاون على تنفيذها مفيد جدا في تكوين الشخصيات القيادية المسؤولة/ ومعلوم أن الإسلام يدعو إلى العمل الجماعي ويثني عليه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (سورة الشورى الآية 38))، وفي الحديث النبوي الشريف (يد الله مع الجماعة). 
فتدريب البالغين والشباب على التشاور والاستشارة وتبادل الرأي، ينمِّي فيهم هذه المهارة التي تمكِّنهم من استثمار العقل الجمعي في حل المشكلات وتحمل كافة المسؤوليات. وقد كان صلى الله عليه وسلم يرفع من قدر الشباب ويشركهم في الأمور العظيمة، يقول الأستاذ عبد السلام الأحمر: ولقد حذا الصحابة حذو رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرصه على رفع همم الشباب، وكان أبرزهم في ذلك عمر رضي الله عنه الذي يستشيرهم في الأمور العظام، ويستفيد من أفكارهم ونظراتهم الراجحة.
إن المهارات السابقة هي التي مكنت جيل الشباب في العصور الأولى من مصاحبة قيم الجد والشجاعة والمبادرة طيلة حياتهم، ومكنتهم أيضا من بناء أسر متماسكة وتربية جيل فريد، آخذين في ذلك بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في حثهم على الزواج وتحمل مسؤولية تكوين أسرة «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء.» 
 ونظرة بسيطة في أسر شبابنا اليوم تعطيك انطباعًا على أنهم لم يكتسبوا الكثير من المهارات، كالقدرة على حل المشكلات، والصبر والتحمل وغيرها، ولذلك تجدهم يتساهلون في الطلاق ويهدمون رابطة الزواج والأسرة في أول مشكلة تواجههم، وارتفاع نسبة الطلاق في أوساط شبابنا مؤشر واضح على ذلك. ولذلكم فإن الحاجة ماسة في تدريب المميزين والبالغين والشباب على مهارات تحمل المسؤولية الأسرية والاجتماعية والتربوية، وباقي المسؤوليات وفي مختلف المجالات.

د. لخلافة متوكل

أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الرشيدية، مختبر الدراسات الشرعية وقضايا الإنسان جامعة المولى إسماعيل - الكلية المتعددة التخصصات الرشيدية.

المزيد من المقالات

  • All Posts
  • عام
  • مقالات
  • نشرتنا
هوس الشهرة الرقمية

لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...

30 أبريل, 2025