قواعد التفكير المنظم

كانوا عبادا زاهدين، وكانت وجوههم مُعَلّمة من آثار السجود، ولكنهم حربٌ على المسلمين وإمامهم، ويستحلون دماء المؤمنين، ويقتلون أولياء الله الصالحين، بسبب آراء لم تقم على تفكير صحيح، ولا عقل راشد، ولا نظر منظَّم.  
 
لما ناظرهم ابن عم رسول الله ﷺ الصحابي الألمعي اللوذعي ابن عباس -رضي الله عنهما- قال لهم بفكر مرتَّب، وجدال منظَّم: (أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله ﷺ وخَتَنه -زوج ابنته- وأول من آمن به وأصحاب رسول الله ﷺ معه؟)، فصاحب التفكير المنظم يسمع الدعوى قبل أن يناقش، ويدع المقابل له يوضح فكرته. 
 
وهنا يبدأ الخوارج يتخبطون في تفكيرهم وآرائهم التي لم يبنوها على عقل منظم، فيقول أحدهم: (حكّم الرجال في دين الله وقد قال الله: (إن الحكم إلا لله). لما قالوا ذلك لم يلجأ ابن عباس إلى مناقشتهم في فهمهم ولم يقل لهم: كأن الله لم ينزل في كتابه إلا هذه الآية، وكأنها لا تقبل أن يفهم منها: (أن الحكم لله يظهره على لسان الرجال) وهل كل أحكام الله نصية يسمعنا إياها بالوحي أم تكون باستنباط الرجال ونظرهم، ولم يدخل ابن عباس معهم في هذه المزالق، بل خَصَمَهم بطريق قوي ونظر ثاقب، فنقض قولهم بكتاب الله، واستدل عليهم بالأدنى على الأعلى، فإن العقل المنظم، والفكر السليم يأخذ من ذكر أدنى الأشياء على التنبيه لأعلاها وما هو أخطر منها، فيقول لهم: (أما قولكم: ‌”حَكّم ‌الرجال في دين الله” فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} إلى قوله: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة: 95] وقال في المرأة وزوجها: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} [النساء: 35] أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟) ما أجمل التفكير السليم، والبعد عن الهوى الذي يمنع من رؤية الأشياء على حقيقتها. ولكيلا نقع في خطورة الأفكار العبثية، والتفكير المشتَّت والسطحي هاك قواعد تعيننا على أن يكون تفكيرنا منظَّما ومرتَّبا وسديدًا. 
 
  • تصور قبل أن تحكم: 
 
إن التفكير غير المنظَّم يقودك إلى الاستعجال في إصدار الأحكام جزافا قبل تصور الموضوع وفهمه بجميع جوانبه، ولذلك يقول لك أرباب العقل: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره). 
 
إصدار الحكم بعجلة .. نعم يريحك من عناء الفحص والتنقيب، وكم يعاني الإنسان ليفهم، وكم يعاني أكثر ليتحقق من صحة فهمه، ولكن بعد إصدار الحكم بدون تروٍ كم من الأخطاء والكوارث التي سنتسبب بها!! 
 
من أكبر الأخطاء التي يقوم بها المعلم إذا أرد أن يعرف شيئا لطلابه أن يحكم عليه قبل أن يصوره لهم، فانظر كيف ستكون عقلية هذا المتلقي حينما يتلقى الأحكام قبل أن يفهم المضامين، هل تراه يوما سيغير رأيه في هذا الذي حكم عليه قبل أن يفهمه؟! أشك في ذلك. 
 
إن البِدار برد شيء لم تُحِطْ … علمًا به سببٌ إلى الحرمانِ 
 
  • فرّق بين القطعيات والظنيات: 
 
تجده يحتد جدًّا في النقاش، ويخاصم بأعلى الصوت، وينتفخ كل شيء فيه، ويزبد ويرعد وكأنه يدافع عن شرف أمه، فإذا تأملت في تلك القضية التي يتعصب لها وجدتها من أسهل القضايا وزنًا، وأكثرها تشعبًا، وأصعبها حكمًا بسبب طرق الظن المتشعبة فيها، فهي موغلة الاحتمال، بعيدة المنال. 
 
ومن أمارات التفكير غير المنظم عند الإنسان أنه لا يفرق بين قضايا القطع والاحتمال، ولا بين الاعتقاد والرأي، فيعادي في الاجتهاديات، ويرى أن فسطاط الحق قائم عليها، وأحيانًا يتسامح في بعض القطعيات؛ لسوء إدراكه لرُتَبِ القضايا.  
 
  • لا تمتطِ أزمة المصطلح: 
 
يتجادلان طويلا ويتصارعان ثم إذا أفاقا واستبانا اتفقا ولم يختلفا، فما سبب ذلك؟! إنها أزمة المصطلح. لا ينبغي أن ننكر أن كثيرًا من أفكارنا مرهونة بمصطلحات مسيطرة علينا إما لا نستطيع أن نقبلها لشناعته أو لا نستطيع التخفف من وطأتها علينا لقبولها في أوساطنا قبولا مطلقًا، فلماذا نرهن عقولنا على الاصطلاح. ويقول السادة الفقهاء: لو قال ولي المرأة: (زوجتك ابنتي البكر) وأشار إليها ثم سمى خطأ ابنته الأخرى الثيب فثق تماما أنك لن تتزوج إلا هذه البكر، لأن العبرة بالمعاني والحقائق لا بالأصوات الخارجة من مخارج الحروف؛ لأن الصوت تعبير عما في الضمير، ولذا لا تتعسكر إلى أحد الخندقين إذا كانت المعركة اصطلاحية: (الحرية – المساواة – التعايش – التقدمية – الرجعية – التراث- العلمانية – السلفية – التنوير). 
 
  • صل نفسك بالحقيقة: 
 
المجادل يرى أن رأيه أنقى الرأي، وأن حجته لو سمعها الشافعي لسلّم بها، فكل يدّعي وصلًا بالحقيقة، ولكن الحقيقة لا تقر لهم بذاك، فالذي يفكر بطريقة غير منظَّمة يكثر من الدعاوى، ويتمنى على الله الأماني، ولكن (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)، وميزان الرأي بدليله وحجته، واقتناعنا به بقوة مقدماته، وصدق نتائجه، وليس بعَرض عمامة القائل به، ولا بحسن حديثه وفصاحته، ولا بنظافة هندامه، وجمال معطفه، فهذه له لا علينا، ولنعلم أن الرأي ليل، ولكل ليل صباح، وصباح الرأي دليله، وإذا لم يسلم الدليل من الاعتراض خرجت الشمس معتِمَةً. 
 
  • ثبت العرش ثم انقش: 
 
من التفكير غير المنظم أن تبني النتائج الكبيرة، والأحكام العريضة على أدلة ضعيفة وبناء هزيل، وترتِّب على تلك المقدمات ما لا تحتمله حتى تخرّ تلك المقدمات على عروشها، وأنت إذا كنت ناقشًا على عرش لن تنقش عليه حتى تثبت العرش وتحكم توازنه ثم تقوم بالنقش والتزيين، فلا تستعجل الخطوة الثانية وأنت لم تحكم الأولى، وقد قالت العرب: (الرَّشْفُ أنْقَعُ) أي: التأني في الشرب أنقع وأذهب وأقطع للعطش، فترشف أدلتك. 
 
  • انظر في مآلات فكرتك: 
 
لا يكفي أن تطرح حلا أو تعالج قضية بأي طريقة وإن كانت مستنداتك سليمة، وأدلتك قوية، وتعليلاتك ظاهرة، بل يجب عليك أن تتأمل في مآلات قولك، وما يلزم من طرحك، وكيف سيكون عليه الأمر لو قررت هذا القرار بناء على هذه المبررات. 
 
ما الذي دعا نبيَّنا محمدًا ﷺ أن يترك رمز الإسلام (الكعبة) ولا يقيمها على بنائها الصحيح الذي كان في زمن إبراهيم -عليه السلام-؟ إنه النظر في آثار القرار، وخطورة ما سيؤول إليه، ولذلك قال ﷺ وهو يخاطب عائشة: ‌«‌لولا ‌أن ‌قومك حديث عهد بجاهلية، لهدمت الكعبة، وجعلت لها بابين» خافَ الفتنة عليهم. 
 
  • لا تتناقض (مبدأ الثالث المرفوع): 
 
العقل المنظم لا يقع في التناقض، والعقلاء يقولون: (النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان)، فليس هناك حالة ثالثة يكون عليها النقيضان، فإذا ثبت أحدهما يجب أن ينتفي الآخر، وإذا ثبت الآخر انتفى الأول، فلا يكون الشيء جيّدًا سيِّئًا في وقت واحد، ولشخص واحد، ومن نفس الجهة، فالعقل يرفض ذلك. 
 
  • افحص القضايا المشهورة أو المسلَّمة: 
 
هناك أمور مسلمة في حياتنا تجد أننا نستدعيها دائما في حديثنا مع الآخرين لنقنعهم بأفكارنا، فهل تجرأت يوما وسألت نفسك: هل هذه المسلَّمة صحيحة؟ تجد أننا نسلم بمبادئَ ومقدماتٍ إنما سلمنا بها لشهرتها بين الناس أو بين طائفة من العقلاء أو المتخصصين، ولم نفحصها ولا نسمح لأنفسنا بفحصها ولا نجرؤ، أو سلمنا بها لثقتنا بقائلها أو من نقلت عنه بحيث كان هذا الحكيم لا يصدر عنه إلا ما هو حكيم، فإذا قابلنا أحدُهم بسؤال عقلي منظَّم: (أثبت هذه المسلمة عندك) تلكأت وتلعثمت وأصابك دوار وتعرق في الجبين، فراجع مسلماتك وافحصها. 
 
  • لا يخدعنّك بريق اللفظ (إن من البيان لسحرا): 
 
قال من أوتي جوامع الكلم ﷺ: “‌إن ‌أحدكم ‌يكون ‌ألحن بحجته فأقضي له، فمن قضيتُ له بمال أخيه، فإنما أقطع له قطعةً من النار”، فلاحظ “ألحن بحجته”، أي أفصح في حديثه، وأقوى في لفظه، ومتفنِّنًا في طرحه، وأوضح في فكرته، وإن كان الحق مع الطرف الثاني، فيجب أن نفرِّق بين الفكرة وطريقة عرضها، فصاحب العقل المنظم يحترس من الألفاظ البراقة، ولا تدهشه القدرة البلاغية، ولا حركات اليد والاستعراض البهلواني لمقدِّم الرأي. 
 
عند المناطقة ما يسمى بالقياس الشِّعري، وهو الذي تكون مقدِّماته قد ركبت من المخيلات الصادقة أو الكاذبة التي يريد صاحبها أن يؤثر في السامع لها فتنقبض نفسه أو تنبسط، فيقول لك: (أنا مضمر الحوائج باللسان، ومظهرها بالمدامع، وكل مضمر الحوائج صامت، وكل مظهرها متكلم، إذن أنا صامت متكلم !!) فانتبه أن تصدِّق أنه صامت متكلم وتخدعك ألفاظه البرّاقة. 
 
  • تحسس مستند الأحكام الكلية: 
 
يطلق العنان في القواعد الكلية، والأحكام المطلقة، وإذا أردتَّ المستند تجده يقدم لك تجاربَ نادرةً، ومشاهداتٍ قليلةً لا ترقى لأن يجعلها ضابطًا لبعض الحالات فضلا عن أن تكون قاعدة تشمل كل الحالات، وصاحب العقل المنظم إذا سمع في أول الجملة كلمة: (كل وجميع وكافة) تحسس الاستقراء الذي بنيت عليه القاعدة والكلية، فكثير منها مبني على شفا جرف هار. 
 
  • إذا أردت القياس فاعتمد على التشبيه المؤثر: 
 
عند تشبيهك فكرة بفكرة لا تكتفِ بالصور الظاهرة، والتشبيهات غير الكافية، ولكن عند إصدار الحكم على الأفكار بقبولها أو ردها بناء على مشابهتها لأفكار أخرى تأمل في وجه الشبه، هل هو من الجهة التي تكون مؤثرة في المشابهة أو مشابهة صورية لا تفيد شيئا، وهنا أتذكر بعض الفقهاء حين يقول: (الخل ‌مائع ‌لا ‌تبنى القنطرة على جنسه فلا يزيل النجاسة كالدهن) فما علاقة بناء القنطرة في إزالة النجاسة! وإنما أراد هذا الفقيه أن يشبه الخل بالدهن بأي وجه من أوجه الشبه، ولا علاقة له بما يؤثر في الحكم، فإذا أردت القياس على شيء فاعمِد إلى الصفات المؤثرة في الحكم. 

د. محمد بن إبراهيم الشامي

عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالرياض

المزيد من المقالات

  • All Posts
  • عام
  • مقالات
  • نشرتنا
هوس الشهرة الرقمية

لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...

30 أبريل, 2025