قراءة في العقل المعاصر (1)

من تمام الوعي، ولوازم التعقل، والتمكّن العلمي لدى الشاب المسلم المهتم بدراسة الواقع المعاصر، أن يدرك حقيقة المخالف له، ويستوعب الحد الأدنى من مذاهبه ومدارسه ورموزه وتحولاته، ويُطل على تاريخه، ويعيد النظر تلو النظر في عناصر قوته المعرفية والفكرية والأدبية والاقتصادية، ويدرك دوافع بروزه ويتعمق في دراسة مناهجه.

وحيث أن مباحث الفكر المعاصر تقع ضمن اهتمامات وقراءات شريحة كبيرة من الشباب، كان لابد من إبراز هذا الجانب المهم، خاصة مع وفرة الاهتمام المعاصر بالجانب الفكري والفكر الغربي خصوصا على مستوى الكتب والأبحاث العلمية والسجالات التواصلية.

واهتمام الشاب بهذا الحقل المعرفي يوفر له حصانة فكرية من عبث الشبهات المعاصرة ،وكذلك يعينه على تكوين خارطة تصورية لحقيقة الفكر الغربي ، وكذلك يجعله على اطلاع وثيق بالتأصيلات الشرعية المتينة التي لها تماس وعلاقة بالمباحث الفكرية المعاصرة.  

دخول الشاب في سجالات فكرية وبالأخص الفكر الغربي دون المدد الكافي والتأصيل المحكم يجعله يتعرض لمآزق علمية تعود عليه بالجوايج التي تؤثر في بنيانه المعرفي والنفسي والإيماني.

ومن تمام البصيرة أن يدرك الشاب أن الغرب ليس خطاً واحداً ،ولا صفحة واحدة، ولا أن كل المنتسبين له يستمدون مدادهم من ذات المحبرة لكتابة أفكار حاضرهم.

ومن المواضيع المثارة في هذه المرحلة: (قراءة الغرب) كيف تكون؟ وكيف نقرأ تحولاته؟ وبواعثه وتاريخه؟ وكيف نفسر تشكل عقله؟ وكيف نفهم مدارسة وتياراته؟ وما هي الضمانات الفعلية في إيقاف سبل الانبهار الذي اجتاح كثيراً من النفوس والعقول الخاوية؟

 على الشاب المسلم أن يعلم أن كثيراً من أزماتنا صُنعت في الغرب، فمن الحصافة الثقافية أن يتحول الغرب من كبينة الدارس إلى مشرحه المدروس.

فهذا التدافع القيمي بين المنظومتين الإسلامية والغربية الذي هو واجب الساعة، لا شك أنه بلغ مقاماً عالياً لم يُسبق إليه تاريخياً في ظل عدد من الاعتبارات المهمة:

1 – الفضاء المعولم عبر ذراع التقنية.

2 – التشويه الموجه عبر ذراع الإعلام.

3 – الجهل الديني  وضعف الزاد العلمي الشرعي لدى كثير من الشباب.

4- تعاظم مكانة الاقتصاد الغربي والتي باتت هي سيدة الرهان.

وللأسف فإن القيم الغربية المتعارضة مع الشريعة الإسلامية تتسرب إلى واقعنا عبر وسائط متعددة، منها المسموع والمقروء، ولا تنتظر منا بطاقة استئذان وهي تنتشر بين ساحاتنا، ولم تسلم منها حقول معرفية عدة كالتربية والعلوم والآداب والتاريخ والأسرة.

لذلك وأثناء الطريق الذاهبة إلى دراسة العقل الغربي الحديث، لا بد للمربي والمصلح والمثقف أن يفطن من الوقوع في فخاخ الأزمات الخمس التي تعثر فيها دون وعي  بعض من تعرض لرياح الغرب العاتية وهم يتعاملون مع العقل الغربي الحديث، وهذه الأزمات الخمس هي:

1 – الأزمة المنهجية، وهي أهمها، وربما غفل وتسامح معها كثير من الذين تناولوا العقل الغربي بالفحص والدراسة، ومنعهم من التنبه لتلك الأزمة: قصور في الإحاطة والاكتفاء بالمعلومة القريبة.

وصور هذه الأزمة:

أ – التعميم، وهي من أكثر الآفات المنهجية والمقوض الأهم لسلامة البنيان المعرفي، وربما كان باعثه استعجال النتيجة قبل جودة البرهنة وتوثيق الدعوى قبل إحكام إثباتها.

التعميم من المزالق المنهجية لرصانة ومتانة البحث العلمي، ولا يكفي التلويح بالنية بالحسنة في دفع التهمة عن الباحث الذي يجري قلمه ولا يتريث في المساواة بين المتفرقات والتمييز بين (المتشابهات)، مما يكشف للقارئ الفطن عن حزمة من الثغرات التي تسمح له برفع لائحة إدانة على سوء العمل.

التعميم من الأخطاء المنهجية بإطلاق، وهي تقوم على أنقاض مهارة الفرز والتمييز والفصل، ودقة التفريق بين المدارس والتيارات والمناهج، وهي في دراسة الغرب أشد احتياجاً لوعورة الطريق وقلة الكتب المترجمة وسرعة التحولات التي يشهدها المشهد الغربي.

ومهارة الفرز والتمييز تجدها حاضرة في مؤلفات المتقدمين، يقول ابن تيمية في الفتاوى 3/384 : (أن الطوائف المنتسبة  الى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من خالف في أمور دقيقة ،ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محمودا فيما رده من الباطل وفيما قاله من الحق).

فابن تيمية يتحدث هنا ضمن الفرق الإسلامية البدعية فلا يجعلها على مستوى واحد بل هي مستويات بحسب البعد والقرب من الحق.

وفي التعامل مع التيارات الغربية رغم أنها خارج الإطار الإسلامي نحتاج لمهارة الفرز والتمييز ،فمن التعسف وصم المشهد الغربي كله أنه يتجه نحو الإلحاد كما يشير بعض من كتب من المعاصرين في وصف التيارات الغربية، مع أن الدراسات الغربية تشير إلى خلاف ذلك. فهنالك تيارات محافظة (كاثوليكية وبروتستانتية) لها ثقل على الساحة، وهنالك نمو لتيارات روحانية إلحادية وغير إلحادية وهنالك نمو متسارع للحالة الإسلامية في الغرب.

أو على سبيل المثال الجزم بأن كافة الغرب يدعم المثلية والشذوذ مع أن هنالك تيارات وجماعات ضغط تناضل وتمنع هذه النزعات المخالفة للفطرة، في مذكراته [1] يتحدث الرئيس الفرنسي هولاند أول رئيس فرنسي سمح بشرعية المثلية ، تحدث عن المقاومة العالية التي واجهها من قبل الجمهور والنواب السياسين والجماعات الدينية في منع فرض المثلية.

وفائدة هذه الدقة والتمييز ليس الدفاع عن هذه التيارات أو محاولة تزكية لمنظومتها وتجميل لواقعها، بل هي عبارة عن:

1 – جودة منهجية.

2 – والتزام أخلاقي.

3 – وتوثيق للواقع كما هو.

4 – ومعرفة أدق للدوافع وبالتالي معالجة تناسب تلك الدوافع.

ولا يعني ذلك عدم وجود أصول مشتركة بين تلك المدارس والتيارات، بل هناك دوائر اتفاق واختلاف، ومن الوعي إدراك تلك الدوائر والإحاطة بها.

ومن صور الخلل المنهجي الذي يتسرب تحت أقدام البعض: الفشل في الوصول لأصل الانحراف في القضية محل البحث فيستهلك وقتاً أكبر في معالجات هامشية بعيدة عن مرمى السبب الأصلي ، فعند الحديث عن ظاهرة التشويه للإسلام من قبل بعض الغربيين، تجد بعض المعاصرين يرجعها للمناهج الدراسية أو لمنصات الإعلام ، والحقيقة أنه هذه مجرد وسائل تم توظيفها في معركة التشويه وليست هي السبب، ولو تعمق المتابع لعلم أن السبب الفعلي هو أن الشريعة الإسلامية التي تقتضي من العبد الالتزام والانضباط والخضوع لأمر الله في شتى مجالات الحياة تتصادم مع مقتضيات الفكر العلماني، والدليل أن بعض الديانات كالبوذية مثلا محل ترحيب في الوسط العلماني كونها تخلو من مسببات التصادم.

وكذلك من صور الخلل المنهجي أثناء دراسة العقل الغربي الاعتماد على عامل واحد في تفسير ظاهرة مركبة نشأت، فتراه على سبيل المثال يُرجع بروز العلمانية فقط للانحراف الكنسي. وفي كتاب مهم جدا مثل كتاب(عصر الثورة) لمؤلفه: أريك هوبز باوم، يكشف عن حقيقة بواعث الثورة الفرنسية وبأن السبب الديني ليس هو السبب الوحيد كما يتداول ذلك كثير من المعاصرين  لظاهرة معقدة مثل الثورة الفرنسية فقد كشف عن العامل الاقتصادي البائس الذي دفع الفقراء والجياع للركض خلف غبار الثورة، يقول: ( في الواقع أن الثورة المضادة عبأت جماهير باريس الجائعة المتشككة،  وكانت الحصيلة الأكثر إثارة في تعبئتهم هي استيلاؤهم على الباستيل)[2] بل واطلق عليها المؤلف في مواضع من كتابه بثورات الفلاحين.

الأزمة النفسية: وتتمثل في الانبهار  وهي حالة نفسية تغلب على بعض القراء للمشهد الغربي، تمتزج فيها جرعات عالية من الاعجاب والدهشة، والإعلاء من شأن المنجز الغربي المعاصر، هذا الانبهار يظل بصاحبه حتى يغلق عليه فاعليه النقد وإبصار المساوئ والآثار السلبية الظاهرة.

وهذه الحالة النفسية هي أثر لانعدام التوازن النفسي للفرد، هذا الخلل يظهر على شكل إفراط في التعلق بالنموذج الغربي الحديث يتجاوز حتى تعلق الغربي بحضارته وثقافته، بل لو تصفحت عددًا من المؤلفات الغربية المعاصرة لوجدتها تجهر بنقد لاذع لبعض التشوهات والانحرافات التي فشت عن الحضارة الغربية، بل لو قلنا أن هناك اتجاهات ترتكز على الموقف النقدي من الحضارة الغربية لما أخطأنا.

ومن أبرز الأسماء التي نقدت الغرب:

  • كتاب نقد مابعد الكولونياله،آريف درليك
  • موت الغرب ،باتريك بوكانن
  • الفردوس الأمريكي، جون هيور
  • الإنسان ذو البعد الواحد ،هربرت ماركيوز
  • الهروب من الحرية، إريك فروم

بل من يتفحص حقول الفكر الغربي يصل إلى نتيجة ظاهرة تكاد كل سبل النظر تؤدي إليها وهي أن مجاميع المذاهب والتيارات الغربية المعاصرة تتفق على مبدأ (النقد الداخلي).

النقد هو العتبة الضرورية التي لابد من المرور عليها، فهي ضرورة فلسفية في تشكيل العقل الغربي المعاصر، يستثمرونها في بناء معارفهم الجديدة وفي محاولة التهويش على التيارات الغربية المخالفة لهم.

النقد يضاد الانبهار، فلا يجتمعان مطلقا، فكيف تسجن نفسك عن ضرورة النقد و الإنسان الغربي يمارسه بكل أريحية مع ثقافته؟! .

[1] انظر : دروس السلطة فرانسوا هولاند

[2] عصر الثورة ،384

ماجد محمد الأسمري

باحث دكتوراه في العقيدة والفكر المعاصر

المزيد من المقالات

  • All Posts
  • عام
  • مقالات
  • نشرتنا
هوس الشهرة الرقمية

لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...

30 أبريل, 2025