
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
كرَّم الله الإنسان وخصه بالتفضيل من بين سائر الأجناس، ومن جملة ما امتن الله به عليه أن أودع فيه فطرة سوية يحكم بها على حسن الأشياء وقبحها، ثم اهتم الإسلام بعد ذلك برعايتها وصيانتها من عوامل الزيغ والانحراف والاجتيال، وجعل في المسلمين حميَّة عليها ليذودوا عنها ما يشوهها ويدنس نقاءها.
ومما يستحق الذكر والإشادة في هذا المقام، موقف الدول الإسلامية عامة والمملكة العربية السعودية خاصة تجاه هذا التآمر على الفطرة، وذلك من خلال إعلان الرفض الصريح في اللقاءات والمؤتمرات، وتشريع القوانين التي تصب في مصلحة حماية الفطرة.
ومن ذلك ما صرَّح به سمو ولي العهد -حفظه الله- في لقائه مع رئيس الولايات المتحدة بايدن، من أن محاولة فرض القيم بالقوة له نتائج عكسية، وذلك لأن لكل دولة قيمًا يجب احترامها، وبمثل هذا ظهر موقف المملكة أمام الأمم المتحدة من خلال سفيرها السابق عبد الله المعلمي، حيث عبر عن رفضها الشديد لكل ما يناقض الفطرة.
إلا أن هناك أممًا آثرت الانحطاط على سمو الفطرة، فجاهرت بأفعال مشينة ترفضها جميع الأديان قبل تسلسل التحريف الذي أطفأ في بعض الديانات بقايا النبوات، ولأجل تشريع الانحراف وتطبيع الشذوذ لم يكتفوا بالممارسات الأخلاقية المعاكسة للفطرة، وإنما طالبوا بحقوق نسبوها زورًا إلى الإنسانية، وذلك لتمرير الباطل وتهوين جرمه، متناسين أن كل سقوط أخلاقي ما هو إلا إيذان بسقوط حضاري وشيك، وهذا ما أكده أشهر الفلاسفة والمؤرخين في الشرق والغرب كابن خلدون وتوينبي وويل ديورانت، حيث اتفقوا على أن انهيار الحضارات يكون من داخلها، وذلك بانحلال أخلاقها الناتج عن فساد فطرتها.
فكلما كان المرء محافظاً على سلامة فطرته واستقامتها كان أجدر وأقدر على القيام بعمارة الأرض، وأداء دور الخلافة المطلوب منه وكلما كان ملوثاً لهذه الفطرة مصادماً لها بما يضادها، كان أقرب وأدعى لإنزال العقوبات عليه ومن ثم الفناء .
ولا يقتصر الشذوذ على ما يُمارَس من أفعال، إنما هناك شذوذ في الأفكار كذلك، وأشهر ما يصح أن يكون مثالاً على هذا: الفكر النسوي، حيث ظهر في منتصف القرن التاسع عشر، وتعددت تعريفاته كثيراً مما صعَّب على الباحثين إيجاد تعريف جامع مانع له؛ وذلك راجع إلى التطورات التاريخية التي مر بها، ولتنوع اتجاهاته ومنطلقاته الفكرية، لكنه في المجمل: فكر متطرف يدعو إلى المساواة التامة بين الجنسين، ورفض جميع أشكال سلطة الرجل على المرأة حتى ما كان منها داخل الأسرة، فيما يُعبر عنه بالبطريركية، والمطالبة كذلك بتغيير القوالب التقليدية التي فرضها المجتمع -بزعمهم- على المرأة منذ القدم، حتى امتدت تلك المطالبات إلى أن شملت الدين واللغة والتاريخ والاقتصاد والمعرفة والطبيعة الإنسانية، فهو فكر تفكيكي بنائي، يسعى إلى تفكيك العلاقة بين الذكر والأنثى، وإعادة تشكيل كل شيء وبنائه من جديد بعيداً عن توزيع الوظائف والأدوار المناسبة لكل جنس!
وهذا الفكر وإن كان مصدره غربياً بحتاً، إلا أن هناك محاولات مستميته لتعميمه ونشره على العالم، من خلال محاولة تلميعه وإقناع الناس به، وأنه ينادي بحقوق مشروعة ومبرَّرَة باستخدام وسائل الإعلام، والمؤلفات، والمحاضرات، وترويج التعاليم النسوية من خلال برامج تعليمية أو مساعدات مقدَّمة إلى دول العالم الثالث، أو عن طريق المنظمات الحقوقية الدولية.
ومما يبين مناقضة الفكر النسوي للفطرة السامية موقفه من الدين، حيث يرفض الفكر النسوي تعاليم الدين، والأدوار التي يمنحها للمرأة، كما ظهرت مطالبات بإعادة تفسير نصوص العهد القديم والجديد التي يفهم منها تعزيز سلطة الرجل أو خضوع المرأة، وكذلك المطالبة بإعادة صياغة اللغة التي كُتبت بها نصوصه، واستبدال الضمائر المذكرة بألفاظ حيادية، والتخفيف من الموقف الديني المتشدد تجاه الشذوذ الجنسي.
كما يروج بعض أصحاب هذا الفكر لرفض الزواج بين الجنسين، حيث تقترح مفكرات هذا الاتجاه الاستغناء عن المؤسسات الذكورية بما فيها مؤسسة العائلة، وقد اتبعت النسويات طرقاً مختلفة لإبعاد المرأة عن الأمومة ودورها الفطري، كاختراع مصطلحات جديدة، كمصطلح الأسرة البيولوجية: وهي الأسرة الطبيعية التي يكون فيها الأب مسؤولاً عن النفقة، لأنها في نظرهم من مخلفات السلطة الأبوية، ولابد من إزالتها.
كما تحتقر النسويات اكتفاء المرأة بالعمل في المنزل ورعاية أسرتها، وكأنها تجعل نفسها متوقفة عن السير مع العالم، فتقول إحداهن: “من الخطأ لأي امرأة ولأي سبب كان أن تقضي أيامها في عمل لا يتحرك، فيما العالم من حولها يتحرك، في عمل لا يستخدم حقاً طاقتها الخلاقة”[1].
ويدعو بعضهم إلى الاستعاضة عن العلاقات الجنسية مع الرجال بعلاقات مع النساء أو بممارسة العادة السرية! فهذه سيمون دي بوفوار تدافع عن السحاقيات وتبرر فعلهن بقولها:” والواقع هو أن السحاق لا يعتبر ضرباً من ضروب التفنن والتسلية لدى المرأة، كما لا يشكل لعنة من القدر تحل عليها، وإنما هو موقف تتخذه المرأة كرد فعل على أوضاعها في المجتمع، أي أن له ما يبرره في حياة المرأة التي اختارته بمحض إرادتها”[2].
كما قامت النسوية اليهودية كارول جيليجان بتأسيس نظرية جديدة في علم النفس، وضحت فيها أن للنساء أخلاقيات تختلف عن أخلاقيات الرجال، كما ترى أن علم النفس السائد كان يهمل نفسية المرأة ويركز على الرجل[3].
ويرى هذا الفكر أن الأخلاق نسبية وغير ثابتة فهي نتاج التنشئة الاجتماعية، وأن الأخلاقيات التي يربطها المجتمع بالمرأة؛ كالطاعة والعاطفة والتفاني والمرونة وغيرها، تعتبر من اختراع المجتمع الذكوري، وأن الرجال هم من روَّجوا لهذه الأخلاقيات الداعية للضعف؛ بهدف إحكام سيطرتهم وسلطتهم عليهن. كما يروج هذا الفكر لحرية المرأة المطلقة في أن تقيم العلاقة الجنسية مع من تريد دون الالتفات لأي قيود دينية أو أخلاقية.
ومن المعلوم بأن التركيز على مجرد المطالبة بمساواة المرأة بالرجل، لن يؤدي إلى إكرام المرأة وإسعادها، ولن يتحقق لها بذلك العدل والرفاهية، فلا بد أن يكون هناك نوع من التمييز العادل بين الجنسين، وقد قال تعالى مبيناً الاختلاف وعدم التماثل بين الجنسين: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [4] فلعلمه سبحانه بما يتناسب مع الرجل والمرأة جاء الإسلام بتعاليم تلائم كلاً منهما، حيث جعل المرأة مساوية للرجل في أمور، كأن جعلها مكلفة بالعبادات، ومسؤولة عن أقوالها وأعمالها، وفرض عليها واجبات تجاه نفسها وأهلها وأسرتها، كما خصَّها بأمور دون الرجل، فخصها بالحجاب وطاعة وليها وأوجب لها النفقة والكسوة والسكن ولو كانت غنية، كما خص الرجل كذلك بأمور دون المرأة، كالولاية والقوامة والجهاد في سبيل الله.
كل ذلك ليعطي كل جنس ما يناسبه وطبيعته، فيتمكن من تأدية واجباته على أكمل وجه، فالصحيح هو إعطاء كل جنس ما يناسبه، وهذا هو عين العدل ودلالة الحكمة، ولا يتحقق ذلك في المساواة بينهما.
ومن التناقض أن ترضى النسوية بسلطة مديرها أو رئيسها في العمل وطاعته والإذعان له، بينما ترفض ولاية والدها أو قوامة زوجها عليها بحجة أن هذا من النظام البطريركي الظالم الذي يجب طمسه وإنهاؤه! وهذا هو عين المخالفة للطبيعة والفطرة، فمن المعلوم أن لكل جماعة سيد يسوسها ويتولى أمرها، فعلى مستوى الأقاليم لابد أن يكون هناك دولة كبرى لها مكانتها وقدرتها على قيادة من حولها، ثم على المستوى الذي يليه، يوجد في كل شعب والٍ يقوم على شؤونهم، بل حتى خارج المجتمعات الإنسانية؛ فعند النظر في المجتمع الحيواني يلاحظ أنها تتخذ لها رئيسًا يقودها ويوجهها، حتى يأمنوا على أنفسهم من الأخطار، فكذلك الأسرة تحتاج لمثل هذا الترتيب لتنتظم الحياة، وهو تكليف يتناسب مع القوة التي مَيَّز الله بها هذا الجنس عن الجنس الآخر، ولا يُفهم من هذا التنظيم وترتيب الأدوار ظلم الجنس الآخر أو التسلط عليه، بل هو بدافع حبه له وخوفه عليه واهتمامه به.
بل إن المطالبة بالمساواة بين جنسين مختلفين في قوتهما وحقوقهما ومسؤولياتهما هو عين الظلم لهما، وهو مما يضرُّ بهما ولا ينفعهما، فهو كمن يكلف الكبير والصغير بذات العمل دون مراعاة للفوارق بينهما، فالمرأة لديها جوانب تفوق بها الرجل، والرجل لديه جوانب يفوق بها المرأة، ومن الظلم إهمال ذلك وتعمد مساواتهما ببعضها.
كما أن جعلهن حياة الرجال وممارساتهم معياراً للحرية والعدالة لهو عين الانتقاص من المرأة ومكانتها، وهو دليل على أن الخلل يكمن داخل عقول النسويات لا في واقع المجتمعات، لوجود عقدة النقص التي تجعلهن يُرجعن كل اختلاف بين الجنسين إلى عدم المساواة والتحيز ضد المرأة.
ثم إن محاربة النسوية للأخلاق والمطالبة بتغييرها أمر لا يقبله صاحب الفطرة السليمة؛ فالأخلاق ثابتة لا تتغير مهما تغيرت الأمم، فلا يمكن أن تصبح العفة والطهر رذيلة، أو يغدو الزنا والفحش فضيلة، ويستحيل أن يمسي نقض العهود محمودًا والوفاء بها مذمومًا، إلا عند من ضلَّ عن الحق واتبع هواه.
كما أن العلاقة بين الجنسين لا تقوم على الصراع والحرب كما تدعو النسوية، بل هي علاقة تكاملية، تقوم على التقدير والاحترام، فلا يستطيع أحدهما العيش براحة وهناء دون وجود الآخر.
مخرجات الفكر:
مما يترتب على هذا الفكر من سلبيات أنه نتيجة لاعتماده على الصراع مع الجنس الآخر وكراهيته، فسينتج عن هذا نفورٌ من الارتباط به ورغبة في الانكفاء على بني جنسه، وهذا فيه مخالفة للفطرة والطبيعة الإنسانية، وانحراف عن المسار الطبيعي الذي فُطر عليه الإنسان، مما يوقع في الشذوذ وانتكاس الفطرة وانقطاع البقاء الطبيعي على ظهر الرأرأرض.
كما أن الشعور بالظلم وحتمية الصراع الدائم مع الجنس الآخر، يورث قلقًا دائمًا وفقدانًا مستمرًّا للطمأنينة، وهذا ما يجعل الإنسان يعيش تحت ضغط نفسي عالٍ هو في غنى عنه.
وكذلك فإن سعي الفكر النسوي إلى التنفير من الزواج بدعوى تحرير المرأة من أدوارها التقليدية داخل الأسرة، وتشبيه الزواج بالاغتصاب والسجن والعبودية، وأنه لم يوجد إلا لمنفعة الرجال فحسب؛ فيه تدمير للأسرة التي هي صِمام الأمان للمجتمعات.
ومن تأمل الحال التي وصلت إليها الأخلاق في المجتمعات الغربية، سيدرك عظم نعمة هذا الدين القويم، الذي صان الإنسان وفطرته وسما بهما عن الانحدار في دركات الضلال والانحلال.
[1] اللغز الأنثوي، بيتي فريدان، ترجمة: عبد الله بديع فاضل، دار الرحبة، دمشق، ط1، 2014م، ص336.
[2] الجنس الآخر، سيمون دي بوفوار، ص157.
[3] انظر: أرشيف المرأة اليهودية، مايا بالاكيرسكي كاتز، 23/يونيو/2021م،
https://jwa.org/encyclopedia/article/gilligan-carol
[4] النساء:32
طالبة دكتوراة في الثقافة الإسلامية
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
من أهم مهمّات (الأسرة) أن تكون على مستوىً من الألفة والاجتماع والتحصن والقوة، ما يسهم في صناعة الجيل وتأهيله لإعمار الأرض على الوجه الذي أمر...
إننا اليوم أحوج إلى تثوير هذا النص النفيس في نفوسنا بعد أن أضحت معاينة الخلق لأحوال الإنسان وأعماله وأذواقه مشرعة لكل أحد ، وهذا يزيد...