
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
حاجة الشباب اليوم إلى (تربية الوحي) تفوق حاجاتهم (الفسيولوجية) التي تبقيهم على قيد الحياة، وتضمن لهم حياة كريمة. ولا عجب فهي التربية التي تملك رؤية شاملة ومتوازنة للكون، والإنسان، والحياة، بتطبيقات ونماذج عملية لم تتوقف، ومناهج رائدة تخرّج منها عظماء الشباب في شتى المجالات.
وبعيدًا عن مسار العلوم الكونية بنتائجه الصادقة المبنيَّة على المنهجية العلمية، والدقة في توظيف أدوات الملاحظة، وصولًا للحقائق التي لا تقبل الجدل، أو الفرضيات والنظريات القابلة للبحث والتجريب.. بعيدًا عن هذا المسار، أصبح اليقين يتولد يومًا بعد يوم بأنّ كل خطوة يخطوها الباحثون والعاملون مع الشباب لفهم (إنسان) هذه المرحلة، وتحديد احتياجاته، وإدراك التكامل بين تنميته وتنمية المكان الذي يتحرك فيه لن يكتب لها النجاح ولا القبول إذا لم يكن لها مستند حقيقي من (الوحي).
الخطيئة العلمية.. ومسرح التجاذب
” يقرُّ رجال الاجتماع في الغرب بأنّ علم الاجتماع ليس صادقاً كميدان للمعرفة، وأنّ 95% من دراساته ترتبط بالأشكال غير المنطقية من السلوك”. بهذه الجملة يختصر مؤلف كتاب (اعترافات علماء الاجتماع) حصاد ثلاثين عاماً قضاها بين دراسة علم الاجتماع وتدريسه.. في جامعات أمريكا وأوروبا وكثير من الدول العربية، وفي السياق ذاته يستعرض ودورث Woodworthمسيرة الفشل في تاريخ (علم النفس) قبل أن يصرّح بعدم أهليته على تقديم تصور أكثر نضجاً لحقيقة (النفس البشرية) فضلاً عن تأمين احتياجاتها، بقوله: “إنّ علم النفس عند أول ظهوره زهقت روحه، ثم خرج عقله، ثم زال شعوره، ولم يبق منه الا المظهر الخارجي وهو السلوك”[1] .
ومع أنّ الحفاظ على كرامة (الإنسان) والوفاء باحتياجاته لا تتعارض مع الجهود الرامية لتنمية المجتمع والارتقاء به إلا أنّ البعض بات ينادي بتغليب مصلحة التنمية وإن تسببت في سحق الفرد، وتجاوزت احتياجاته، وطغت على هويته، وخصوصياته. وهذه ليست سوى مغالطة انتهازية مكشوفة، لا يفوقها إلا المغالطة المنهجية المتمثلة في تصوير منجزات تلك التنمية على أنها نِتاج الفصل بين (الوحي) (والعلم). وهي الخطيئة الشيطانية التي لم تزل تتلقفها وتكررها (حضارات) العقوق منذ فجر البشرية الأول، وظهرت مؤشرات فشلها في بقاء الوحي.. وزوال تلك الحضارات نفسها!
والخطيئة العلمية التي تحول بين الناشئة وبين الدين والقيم بزعم تحقيق (تنمية أرقى) ليست نشازاً معاصراً.. أفرزته الطفرة الصناعية، والثورة التقنية الهائلة، بل هو امتداد لخطيئة قديمة، ضاربة في القدم.. منقطعة، لا ثبات لها، قاصرة في أهدافها، مختلفة في مناهجها، ومتناقضة في نظرياتها، وهي تحمل بداخلها عوامل فنائها. ولو تصدرت المشهد بذاتها لتجلت تناقضاتها وعدم أهليتها، ولم تدعُ الحاجة إلى تفنيد ادعاءاتها، وكشف مزاعمها، غير أنها صُدّرت في هذا العصر عبر (التربية المادية) التي تزعمت الحديث بلسانها، وتمثلت قيمها ورؤيتها للكون والإنسان والحياة.
إنّ التربية المادية غير صالحة في ذاتها لأن تكون مرجعاً يعتدّ به، إلا أنها باتت اليوم تملك من قوة التأثير والنفوذ ما يجعلها في قائمة الصدارة، ومن أدوات التغيير ما يحيلها مقصد الطامحين في الشرق والغرب.. رغم تناقضاتها، ونظرتها القاصرة. وتوحي مؤشرات نفوذها المعاصر بأنها ستكون (معبود) الأجيال القادمة الخواء، وقِبلة كثير من خطط التنمية والتعليم التي ستسهم -جهلًا أو عمدًا- في تجريد المجتمعات من خصوصيتها، وسلب هويتها وأعزّ مقدراتها، وتشويه ثوابتها، والتلاعب بقيمها ومبادئها.
وسوف تضفي هذه التربية مرجعية شرعية وقيمية لممارساتها في كل ثقافة، مع كل عقيدة؛ ولذا ستتعامل مع (الإحسان) لكن بمعاني الإتقان، وستمجّد (طالب العلم) لكن في مساره الكوني التجريبي، بوصفه قاسماً أممياً مشتركاً، وستتدرع بالمبادئ والقيم، لكن في نطاق العمل، وأخلاقيات المهنة، وجودة الإنتاج الذي ستكرس له جهود التخطيط، ومبادرات التنفيذ، ومحددات التقييم والتكريم.
التصورات.. ومحور الاهتمام
في خضم ذلك كله تظهر الحاجة الملحة لتربية الوحي التي لا تقتصر على تزويد الفرد بالعلوم النافعة التي تعينه على إصلاح تصوره وإدراك الأشياء على حقيقتها، بل تأخذ بيده ليكون قادراً على تقييمها، والحكم عليها، وتزوده بالقيم، والإجراءات، والأدوات التي تعينه على الثبات، وترشده لطرق التعامل مع المخاطر والأزمات. وقد تخرَّج من هذه التربية عظماء الإسلام الذين تكاملت شخصياتهم في شتى المجالات، وانعقدت الآمال بهم ـ بعد الله تعالى ـ في مواجهة الانحرافات وصدّ الهجمات التي تعرض لها المسلمون في مختلف الأعصار والأمصار، والشواهد على ذلك كثيرة لا تحصى.
لقد اكتسحت فتنة خلق القرآن العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري جرَّاء العقائد الكلامية المترجمة التي اضطربت بسببها عقائد الكثير، وتشوهت تصوراتهم، واختلت موازينهم، ولم يكن ثمّة سبيل لمعرفة الحق والثبات عليه إلا لزوم (الوحي) الذي كان ــ ولا يزال ــ بمثابة سفينة نوح، من اعتصم به نجا، ومن ابتعد عنه هلك، حتى قال بشر الحافي واصفاً ما قام به الإمام أحمد آنذاك: (إن أحمد قام مقام الأنبياء)، في تحديد دقيق للمهمة التي جعلت منه إماماً للمتقين، وظهر بسببها الحق، واندحر الباطل. وفي السياق ذاته يجري الحديث عن بقية العظماء من مختلف التخصصات على مدار التاريخ.
وعلى الرغم من توجه بوصلة المناهج التربوية صوب (الإنسان)، وسعيها إلى تقديم تصور أكثر وضوحًا لأبعاد التنمية الشاملة التي تحفظ حقوقه، وتُعنى بصحته، وتشبع حاجاته المختلفة، وترفع مستوى معيشته، وتعليمه، وتحقق له مزيداً من الرفاهية، وتحسّن نوعية الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي يعيشها.. مع هذا الاشتراك ــ من حيث المبدأــ إلا أن الفوارق الحقيقية بين تربية وأخرى تظهر في التصورات والغايات؛ فالتربية المادية الوضعية لا تتعامل مع الإنسان إلا بكونه ترساً فاعلاً منتجاً في (المصنع) الكبير الذي يكرّس مبدأ البقاء للأقوى، ويُفقد الإنسان هويته وخصوصيته، ولا يتوقف أفراده لحظة عن الكدح والإنتاج المادي.. حتى إذا حانت لهم فرصة آخر الأسبوع انتقلوا إلى ممارسة اللهو، واللعب، وإشباع الغرائز.
ويا لها من معادلات (مختلة الحدود) حقاً بميزان التربية المادية تلك التي لا يمكن تفسيرها إلا بمؤثرات الإيمان والقيم. إن خريجي هذه التربية الخَواء ليعجبون حقاً من ذلك الشاب الوسيم الذي اكتمل نضجه الجنسي والبدني ثم لا ينتهز الفرصة، بل يفرّ من أمام الإغراء الذي مُنح له بدون طلب من وراء أبواب مغلقة، ويرتضي أن يُودع السجن على أن يُشبع شهوته بالحرام! ويدهشهم تصرف ربّ المال الذي قضى الليل والنهار كي يجمعه، ثم يرتضي بكل أريحية أن ينفق نصفه أو كله رغبة في نفع آجل ليس له مؤشرات محسوسة مشاهدة، بدلاً من صرفه في اللهو، وتحصيل اللذة والترحال، وشراء أثمن المقتنيات. ويذهلون أمام أولئك الشباب الذين يعودون إلى بيوتهم (باكين) لأنهم لا يجدون ما ينفقون، ولم يُدرجوا في سجلات المجاهدين.. الذاهبين للموت!؟
وسرّ تلك الدهشة والذهول كامن في معين التربية المادية الوضعيَّة التي نشأوا عليها؛ فهي تربية براجماتيَّة، انتهازية، لا تهتم بالإنسان، ولا تهدف لتحقيق مصلحته، بل تسعى ــ بعلومها، وتخصصاتها، ومهاراتها ــ إلى استعباده ليكون (مورداً) لغيره، كما تكرّس – من خلال أدواتها وقيمها ومخرجاتها – منهجية طويلة لتجريده من روحه، وانتمائه، واستقراره؛ ليتحول بمرور الوقت إلى كائن (أجوف): ” جُعظريّ، جوّاظ، سخّاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بالدنيا، جاهل بالآخرة[2]“، كائن انتهازي، لا يخطط إلا لنزواته، ولا يسير إلا وفق شهواته: ” لا يعرف معروفاً، ولا يُنكر منكراً إلا ما أشرب من هواه[3]”
في المقابل.. تتمثل ضمانات النجاح التي تقدمها تربية الوحي لإصلاح التصورات والاهتمامات في نظرتها للإنسان أولاً، وفي تحديد مهمته الكبرى ثانياً؛ فالإنسان في تربية الوحي: مخلوق مكرّم، نفخ الله تعالى فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفة في الأرض، وحدّد له الغاية الأسمى من الحياة، حتى غدا مقصودَ رسالات السماء، ومتحكّمًا في موارد الأرض، ومشرَّفاً بخطاب الله المقدس، وموردًا للتكليف بشريعة الله تعالى، قال الله جلّ جلاله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70).
والإنسان -في منهجية الوحي- مهيأ لتحمّل المسؤولية، وهو مريدٌ فاعل، زوّده الله تعالى بقوة العقل، وهي أداة التفكير والإبداع. وفي مقابل هذه الإرادة والقدرة، جعله الله تعالى قابلاً للتوجيه، ومؤهلاً للمسؤولية، ومكلفًا عن عمله، مجازًا عليه حين الرجوع إلى ربّه سبحانه، والوقوف بين يديه للحساب، قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72).
وحفاوة القرآن الكريم بالنفس البشرية وباستقرار المجتمع المسلم تظهر بجلاء حين نستعرض مفردات التأكيد على كل منهما مقارنة بغيره؛ فمن بين أحد عشر قسماً في القرآن الكريم لتأكيد جملة من الحقائق والمفاهيم يتفرد القسم على النفس البشرية بكونه أطول قسم في القرآن الكريم، قال الله جلّ شأنه: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 1-10)
وتربية الوحي لا تنقطع مع الإنسان وفاءً باحتياجاته، وارتقاءً بروحه وعقله وجسده فحسب، بل تُولِي عنايتها الفائقة بإصلاح المجتمع الذي يتحرك فيه، ولا أدلَّ على ذلك من تصدّر آيات النداء لجماعة المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) بمجموع تسعة وثمانين موضعاً في القرآن الكريم، وتضمُّن السنة النبوية لنصوص رعاية الحقوق، وتنظيم المعاملات بين أفراد المجتمع الواحد بسعة وشمول لا مثيل له في أي منهج وضعي آخر.
التنمية.. في ظلّ الوحي
إذا كان (الإنسان) بهذا القدر من الكرامة، (والمجتمع) بهذه المنزلة والمكانة فلا بد أن يكونا إذاً محور التركيز والاهتمام في كل تنمية مستدامة، ولأنّ التوازن في توظيف مدركات العقل والقلب والحواس هو السمة البارزة للمسلمين فقد كانوا روّاد العلوم الدينية والدنيوية بلا منازع، وتفتقت عقولهم الزكية عن تراث علمي فريد لا يزال العالم حتى الآن عالة على مخطوطاتِه، وارتفعت بجهودهم حضارة رائدة ظلَّت تحرك العالم، وتصدّر مواهبها وإنجازاتها إلى سائر الأمم بمختلف اللغات.
لقد سبقت تربية الوحي مناهج التربية الوضعية جميعاً في الدعوة إلى كرامة الإنسان؛ حيث جعلته غاية كل تنمية، وأكدت على أحقيّته في الحرية، والحصول على المعرفة، وأن ينعم بالرعاية الصحية السليمة من الأمراض والأوبئة، وارتفاع مستوى المعيشة اللائقة به. وهي تنطلق في ذلك كله من قناعة راسخة مفادها أنّ الموارد التي سخّرها الله تعالى لأجل الإنسان، ويسرها وذللها له: متاحة بين يديه ليوظفها في تحقيق رسالته الكبرى في الحياة، وهي بذلك استحقاق لا يقبل المنّة، ومشاع لا يخضع للاحتكار والمساومة.
والعجيب أنّ هذين المطلبين: ما يجب على الفرد من تحقيق رسالته وغايته في الحياة، وما يجب له من مقدرات التنمية على اختلاف مجالاتها: مضمّنة في وظيفة من يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته، ولا تخرج مهمّته عن: حراسة الدين، وسياسة الدنيا به[4]، وهو ما ألقى بثقله على كاهل الخلفاء الكرام، ومن استنّ بسنّتهم، وسار مسيرهم. أخرج ابن عساكر في تاريخ الخلفاء عن أبي صالح الغفاري: أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتعهّد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيسقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، وخرج من عندها كيلا يُعرف، فرصده عمر فإذا هو أبو بكر رضي الله عنه، وهو يومئذ خليفة[5].
ومن دقة هذه التربية في إصلاح المعادلة التنموية، وصيانتها لجوانبها الاجتماعية: مزجها بين القيم الإيمانية، والمهارات الضرورية، واشتراطها أربعة مؤهلات لا بد من توافرها فيمن يتصدى للوفاء بمطالب التنمية الحقيقية تلك: القوة والأمانة، والحفظ والعلم. قال الله تعالى في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص:26)، قال السعدي رحمه الله: وخير أجير استؤجر هو من جمعهما أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملاً بإجارة أو غيرها؛ فإنّ الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما اجتماعهما فإن العمل يتم ويكمل[6]. وقال سبحانه على لسان يوسف عليه الصلاة والسلام: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55)، أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محلِّه، وضابط للداخل والخارج، عليمٌ بكيفية التدبير والإعطاء، والمنع والتصرف في جميع أنواع التصرفات[7].
والتنمية في ظلّ الوحي قائمة على أصلين كبيرين: تحقق المؤهلات في الأفراد، باجتماع القوّة والأمانة معاً، وتحقق الإيمان الباعث على الرّقابة الذاتية والدافعة للإتقان. والأدلة على تكاملهما كثيرة متظافرة، فعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنّ الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”[8]. فجمع صلى الله عليه وسلم بين محبّة الله تعالى: أرفع منازل الإيمان، وغاية الجانب القيمي المتعلّق بمورد التكليف، وبين تحقيق الإتقان: غاية الجانب المهني المتعلّق بعمارة الأرض.
وضمانات النجاح التي تقدمها تربية الوحي لتحقيق تنمية بشرية سويّة ومستدامة تتمثل في أمرين: توسيع دائرة العبادة لتشمل عمارة الأرض وفق شرع الله تعالى، وتحديد مجالات وآثار التكامل في هذه التنمية، ومن أبرزها:
وأخيراً..
لا غرو بعد هذا أنّ منهجاً تلك عظمته في تعظيم (الوحي)، والموازنة بين مطالب الدنيا والآخرة، وضبط مسارات التكامل بين مطالب الروح والعقل والجسد، واحتياجات الإنسان وتنمية مجتمعه، لا بد أن يكون هو في ذاته (منهجاً عظيماً)، ومن عدم الإنصاف مقارنته بالمناهج والنظريات الوافدة الوضعية التي ضمنت مقعدها الشاغر في مسيرة الفشل التي عبر عنها (ودورث Woodworth) جراء مصادمتها للوحي، وانحراف رؤيتها لمكانة الإنسان، ومجالات تنشئته، وتوظيفها لطاقاته وقدراته في العمارة المادية للأرض فحسب، التي أصبحت في مناهج العولمة المادية مقصودَ الإنسان الأوحد، ومقوّم الإنجاز الأكبر الذي يسعى الفرد في ضوئه لتطوير نفسه، ومجتمعه، وبناء مستقبله.
واستخلاصاً لنتائج ما سبق.. يمكننا عزو أسباب الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها التربية المادية المعاصرة، إلى: هيمنتها، وأنانيتها، واستئثارها بتشكيل مسارات العلوم المادية المعاصرة لتخدم نظريتها المادية الجامدة بأدواتها الجوفاء التي جرّدت (الإنسان) من احتياجاته الحقيقية.. بل من هويته؛ طمعاً في تشييد (مصنعها) الكبير، وتجرؤها في المقابل على مناوشة الوحي، وحرصها على تجريده من صلاحياته، وتحييده عن مسرح التأثير، ورفض التصالح معه .. جاهلة أحقيته، وأهليَّته، وأسبقيته، وأنّه ضمانة البقاء الوحيدة لها، والقادر على نفخ الروح الباعثة للحياة في مخرجات مصنعها الكبير، وإعادة تشكيل تصورات وإرادات وسلوكات إنسانه الفاعل.
[1] لمزيد بحث وتوسع: راجع فصل (The Soul in Soulless Psychology) في صفحة جامعة كامبردج: “Psychology without a Soul” – Published online by Cambridge University Press: 10 February 2023. (https://n9.cl/s3oqos)
[2] حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد والبيهقي عن أبي هريرة (انظر: صحيح الجامع، حديث رقم: 1878). والجعظري: الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع.
[3] صحيح مسلم، (1/ 129).
[4] الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 15).
[5] تاريخ الخلفاء لابن عساكر، (ص: 64).
[6] تفسير السعدي ج1/ص614.
[7] تفسير السعدي ج1/ص401.
[8] رواه الطبراني في الأوسط، ج1/ص275.
[9] تفسير ابن كثير، ج1/ص70.
مشرف جودة ومستشار تربوي
لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...
من أهم مهمّات (الأسرة) أن تكون على مستوىً من الألفة والاجتماع والتحصن والقوة، ما يسهم في صناعة الجيل وتأهيله لإعمار الأرض على الوجه الذي أمر...
إننا اليوم أحوج إلى تثوير هذا النص النفيس في نفوسنا بعد أن أضحت معاينة الخلق لأحوال الإنسان وأعماله وأذواقه مشرعة لكل أحد ، وهذا يزيد...