الحدادة النفسية للعوالق المخفية

تأملات تربوية في نص نفيس لأبي يزيد البسطامي

تواطأت كتب أهل المعرفة والتزكية المتقدمين على الاستشهاد بأحد النصوص التربوية النفيسة لأحد محققي الصوفية في القرن الثالث، تناول فيه تجربته الذاتية في سبيل تزكية نفسه من ملاحظة الخلق مع كل خطرة وخطوة، وصاحب هذه التجربة: أبو يزيد البسطامي طيفور بن عيسى ت:261 هـ صاحب المقامات والمجاهدات المشهورة والملقب بسلطان العارفين، وقد اشتهر هذا النص في المدونة الصوفية فذكره السهروردي في عوارف المعارف، واحتفى به القشيري في رسالته، ثم رواه النووي عن القشيري في بستان العارفين، والنص هو:

“كنت ثنتي عشرة سنة حداد نفسي، وخمس سنين كنت مرآة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما، فإذا في وسطي زنّار ظاهر فعملت في قطعه ثنتي عشرة سنة، ثم نظرت فإذا في باطني زنار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطع، فكُشف لي فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات”.

لقد جلّى هذا النص شهود حقيقة النفس الإنسانية المفتقرة إلى التهذيب والتقويم الحازم، وهو شهود ذو تكلفة باهظة تقدّر بخمسٍ وثلاثين سنة في بذل الوسع وما فوق الوسع، فالنفس الحرون أشد استعصاءً من قالب الحديد وهذا يقتضي تعريضها على (كير) التقريع، ثم (طرقها) بالزواجر، ثم (تقويمها) بالعمل الصالح ، حتى إذا استقامت نظر في مرآة التوحيد، فإن كانت مثلومة بمراعاة الخلق ومحبة رؤيتهم لفضائله أعاد الكرة حتى تفنى عن رؤية الآخرين فيكون دأبه الدهر هكذا: مجاهدة تتلوها مجاهدة ومراقبة تعقبها مراقبة ، وهذا ما كلّف البسطامي نصف حياته في المجاهدة لكي يصفو له النصف الآخر دون منغصات ، وربما جاز لنا اعتبار هذه التكبيرات الأربع هي عوائق التصفية المرادة: النفس، والهوى، والشيطان، والدنيا ، فإذا تخلص الإنسان من هذه الأربع استطاعت نفسه أن تهديه مسالك الفلاح ، ولذلك يمكن القول أن هناك  ثلاث ركائز يدور حولها النص وهي:

  • صيرورة التزكية، فمراقبة النفس تستغرق العمر كله، حتى تنعدم فيها منطقة الراحة، فالرحلة طويلة بطول العمر – وإن كانت قصيرة في حساب الزمن الحقيقي – ولا يمكن أن يطمئن الانسان الى حالة يجد فيها مستقراً من الرياضة، وأماناً من العوائق، حتى أن الإمام أحمد ظل – في لحظات الموت الأخيرة – يردد: ليس بعد، وحين سئل عن مقصود كلامه، قال: رأيت الشيطان يعض على أنامله يقول: يا أحمد فُتَّنِي، وأنا أقول: لا بعد، لا حتى أموت.
  • معضلة الغفلة الطبعية، فالإنسان مركب من غرائز وعادات ومألوفات يستدعي التعامل معها التنبه لآفاتها، فالإنسان ظلوم، وجهول، وضعيف، عل ما حشيت به نفسه من الحرص والكبر والعجب بالنفس، فكلما ترك لطبعه مادت به في المسالك المرذولة، والخلق المذموم يولّد مثله ويستلزم قرينه في سلسلة لا تنتهي إلا بالوعي لهذه القوى والدوافع، ولذلك قيل مرة لأبي يزيد حدثنا عن رياضة نفسك في بدايتك فقال: دعوت نفسي إلى الله فجمحت علي فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق النوم سنة فوفت لي بذلك.
  • إمكان تقويم النفس وتشكيلها من جديد، لأن النفس كالطفل الوليد يمكن حثه على المعالي كما يمكن تربيته على نقيضها، فالإنسان مفطور على معرفة المعروف والفضيلة، ويبقى عليه أن يكمل ذلك بالتزام مقتضيات الشريعة، وحتى تصير هذه الفضيلة طبعاً فإن عبادة ليلة فاترة أو صدقة عابرة لا تكفي لحصول الغرض، بل عليه أن يتعاطى أفعال المحسنين من أجل تحصيل التزكية المقصودة، لذلك قال الله عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: ٦٩] فمن لم يجاهد كيف يريد الوصول؟

خلاصة القول إننا اليوم أحوج إلى تثوير هذا النص النفيس في نفوسنا بعد أن أضحت معاينة الخلق لأحوال الإنسان وأعماله وأذواقه مشرعة لكل أحد ، وهذا يزيد في صعوبة مهمة بذل الطاقة الصالحة والصراع مع النفس من أجل الشهود الإيماني وتحقيق اليقين الصادق بموعود الله تعالى في الهدى والنور ، يقول النووي تعليقاً على هذا النص: ومن جاهد هذه المجاهدة، وتهذبت نفسه، واستنار قلبه، واستولى على نفسه فقهرها، وملكها ملكًا تامًا، وانقادت له انقيادًا خالصًا، نظر إلى جميع المخلوقين فوجدهم موتى لا حكم لهم‏.‏ فلا يضرون ولا ينفعون، ولا يعطون ولا يمنعون، ولا يحيون ولا يميتون، ولا يصلون ولا يقطعون، ولا يقربون ولا يبعدون، ولا يسعدون ولا يشقون، ولا يرزقون ولا يحرمون، ولا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا‏.‏

د. حامد الإقبالي

باحث في الفكر الأخلاقي والصوفي

المزيد من المقالات

  • All Posts
  • عام
  • مقالات
  • نشرتنا
هوس الشهرة الرقمية

لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...

30 أبريل, 2025