التفكك الأسري وأثره على نفسية الشاب وسلوكه

حين يتحدّث الوحي عن العلاقات الزوجيّة والأسريّة، فهو يستخدم في سياق ذلك مفردة (الأهل) قال تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا ﴾ [التحريم:6] وقال تعالى: ﴿فَلَمّا قَضى مُوسى الأجَلَ وسارَ بِأهْلِهِ﴾ [القصص:26] وقال تعالى: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم:55] وقال: ﴿وأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْألُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقِبَةُ لِلتَّقْوى﴾ [طه:132] وفي الحديث عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النّبي قال: «كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، الإمامُ راعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ» [البخاري:893 مسلم:1829]

جاء في الموسوعة الكويتية: لَفْظُ الأْسْرَةِ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، كَذَلِكَ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْفُقَهَاءُ فِي عِبَارَاتِهِمْ فِيمَا نَعْلَمُ؛ وَالْمُتَعَارَفُ عَلَيْهِ الآنَ إِطْلاَقُ لَفْظِ (الأْسْرَةِ) عَلَى الرَّجُل وَمَنْ يَعُولُهُمْ مِنْ زَوْجِهِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ قَدِيمًا بِأَلْفَاظٍ مِنْهَا: الآل، وَالأهْل، وَالْعِيَال[1].أ. هـ

وإنّه لعجب أن يكرر القرآن هذه المفردة ويؤكّد عليها ليلفت الانتباه إلى عمق المعنى المراد من هذه العلاقة الاجتماعيّة العظيمة والتي بدأها الله تعالى بـ (الميثاق الغليظ) قال الله تعالى: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا أتَأْخُذُونَهُ بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا ۝ وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء:20 -–21]

إذ من أخصّ المعاني الدلالية لمفردة “الأهل “: الجماعة والاختصاص والألفة. قال ابن العربي: وَأَصْلُ الْأَهْلِ الِاجْتِمَاعُ، يُقَالُ مَكَانٌ آهِلٌ إذَا كَانَ فِيهِ جَمَاعَةٌ[2].أ. هـ ونجد أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي يلفت النظر إلى معنىً حسّي في مفردة الأهل، وهو معنى “الألفة ” يقول: وكل دابة وغيرها إذا ألِف مكانًا فهو آهل وأهليّ، أي: صار أهليّا، ومنه قيل: أهليّ لما ألف الناسَ والمنازل، وبرّي لما استوحش[3].أ.هـ.

وهذا اللفظ القرآني يمكن اعتباره جسرًا نمر من خلاله إلى مصطلح الأسرة الذي يدور معناه على: التحصن، والربط، والاشتراك، والقوة.

وعليه ندرك من ذلك أنّ من أهم مهمّات (الأسرة) أن تكون على مستوىً من الألفة والاجتماع والتحصن والقوة، ما يسهم في صناعة الجيل وتأهيله لإعمار الأرض على الوجه الذي أمر الله تعالى به.

وذلك إنما يتحقق من خلال مقومات وعوامل مهمّة جدًّا، أهمها: الترابط الأسري؛ إذ عامل النشأة الأولى للشّاب بين أسرة مستقرة مترابطة قويّة متينة بالألفة والاجتماع يسهم كثيرًا في صناعة شاب سويٍّ مستقيم قادر على التعايش مع الحياة، وفهم واجباته في ظل المتغيرات وإيجابي في التأثّر والتأثير

حيث تعتبر الأسرة هي المحضن الأهم في غرس القيم وصياغة الشخصيّة وصناعة الاستقرار سواءً على مستوى الأفراد أو حتى على مستوى الجماعة والأمّة، إذ هي اللبنة الأولى للمجتمع، ولأجل هذا فقد حرصت الشريعة أشد العناية ببيان الأحكام والآداب والحدود التي من شأنها أن تبقى الأسرة هي الحصن المنيع المتين وحجر الزّاوية الأهم في ريادة المجتمع وصلاحه؛ وفي المقابل فقد حرص الشيطان وأولياؤه حرصًا حثيثًا في تقويض هذا الحصن واختراقه واهترائه من الدّاخل، لما لذلك من الأثر البيّن على فساد المجتمع وتفككه.

وهذا الأمر سعى إليه إبليس منذ اللحظة الأولى حين خلق الله آدم عليه السلام وأسكنه الجنة، فقد سعى إبليس في إخراجه من الجنة بالإغواء والإغراء حتى أهبطه الله تعالى من الجنة ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ أبى ۝ فَقُلْنا يا آدَمُ إنَّ هَذا عَدُوٌ لَكَ ولِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى۝ إنَّ لَكَ ألّا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى ۝ وإنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيها ولا تَضْحى۝ فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى ۝ فَأكَلا مِنها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِن ورَقِ الجَنَّةِ وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى۝ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى ۝ قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ [طه:116 -123 ] .

وجاء في الحديث عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنَّ النّبي قال: «إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شيئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ.» [مسلم:2813]

والترابط الأسري يتمثّل في معناه البسيط والعميق في: الصّلة وجودة التواصل، إذ هي الركيزة الأهم في بناء القيم وصناعة النفس السويّة، وبقدر ما تكون الجودة في التواصل بقدر ما تكون النتائج أبهى وأسعد وأحسن أثرًا ونفعًا والعكس بالعكس، ومن هنا تظافرت نصوص الوحي في التحذير من (القطيعة) لا سيما: قطيعة الرّحم؛ وإن أول من يشملهم الخطاب في الأمر بصلة الرّحم: صلة الآباء لأولادهم وصلة الأولاد لآبائهم، كما أنّهم هم  أول من يحظى ببركة الصّلة والتي نصّ عليها الوحي من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ النّبي قال: « مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [البخاري:5986 مسلم:2557]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ قَال: «مَنْ كَانَ يُؤمنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [البخاري:6138]، فتأمّل هذه البركات: الإيمان. والبسطة في الرزق. وبركة العمر. وحفظ الذريّة.. كلها ناشئة من جودة (الصلة والتواصل) الأسري حيث أن ذلك يمثّل الصورة الأجمل في استشعار المسؤولية والقيام بها.

وفي المقابل فإن التفكك الأسري يتمثّل معناه البسيط والعميق في: ضعف التواصل والصلة بين الآباء والأولاد سواءً على مستوى السرة النواة أو السرة الممتدّة؛ وهذا من شأنه أن ينعكس أثره أولًا على طبيعة النشأة، واهتزاز السّلوك والاضطرابات النفسيّة، ثم ينعكس أثره على الفساد في الأرض، قال الله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسِيتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأصَمَّهم وأعْمى أبْصارَهُمْ ۝ أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ [محمد: 22-24].

إننا حين نقول أن التفكك الأسري: أساسه وحقيقته تكمن في ضعف التواصل والصلة فهذا يشمل: حالات الطلاق التي ينفصل فيها الزوجان انفصالًا لا إحسان فيه، ويشمل أيضًا حالات الانشغال (الوالدي) عن تربية أولادهم والتواصل معهم، قد يظهر هذا في صورة أبٍ مغترب عن أسرته وأهله، أو والدين مشغولين بالوظيفة والعمل عن أولادهم، أو أبوين لا يجيدان إدارة مشاكلهما فينشأ بينهما طلاق عاطفي وحياة مزدحمة بالفوضى والصراخ والشتائم والسباب والسلوكيات التي توسّع دائرة الفجوة في التواصل بين الأبوين وأولادهم، فينعكس ذلك على نفسيّة الطفل والشاب مما ينتج عنه سلوكيات مؤذية للنفس والمجتمع.

ويمكن تلخيص أهم أسباب ومظاهر التفكك الأسري في النقاط التالية:

1.سوء الاختيار.

أول هذه الأسباب تبدأ من “سوء الاختيار” سواء سوء اختيار الفتاة للزوج الصالح أو سوء اختيار الشاب للبنت الصالحة، فإنّ أول لبنة في حسن تربية الأولاد والعكس هو اختيار الأب والأم.

إنّ كثيرًا من شبابنا -في هذا الزمن خاصّة -يعانون على مستوى الاختيار، إذ تأخذهم شدهة اللحظة الحاضرة فتتجه اهتماماتهم في الاختيار على مواصفات وصفات شكلية متغيّرة لا تنفع أن تكون ميزانًا للاختيار، كما لا يُراعى فيها الصفات المهمّة لمستقبل ما يكون من هذه العلاقة؛ فالفتاة تتعامل مع الزواج على أنه (ماكينة) لتحقيق الأحلام والأمنيات، والشاب يتعامل مع الزواج على أنه علاقة (فندقيّة) – إلاَّ من رحم – ومن هنا تبدأ انتكاسة (التفكك).. من لحظة الاختيار والضبابيّة في موازين الاختيار. الأمر الذي يعني أن هناك أيضًا ضبابيّة أو عدم وعي بالأهداف الأولويّة من الزواج.

2. ضعف الوعي بالمسؤوليّة.

في الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبي قال: «ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ، كما تُنْتِجُونَ البَهِيمَةَ، هلْ تَجِدُونَ فيها مِن جَدْعاءَ، حتَّى تَكُونُوا أنتُمْ تَجْدَعُونَها؟» [البخاري:6599 مسلم:2658]

فالنص واضح وصريح في أثر الوالدين على نشأة الطفل، وأثر سلوكهم على سلوكه، لاحظ هذا في المثل الذي ضربه النبي : «كما تُنْتِجُونَ البَهِيمَةَ، هلْ تَجِدُونَ فيها مِن جَدْعاءَ، حتَّى تَكُونُوا أنتُمْ تَجْدَعُونَها؟»

ويؤكّد هذه المسؤوليّة حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النّبي قال: «كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، الإمامُ راعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ».

وحين تغيب هذه المسؤولية والإحساس بها عند الأبوين فبالطبع لن يكون هناك أي رقابة على سلوكياتهما أمام الأولاد، وحتى بوصلة التربية ستتجه نحو رعاية (التسمين) والمفاخرة والوجاهة بالأولاد ولباسهم وأشكالهم أمام الأقران!

3. الوالد الحاضر الغائب.

الوالد – المقصود به الأب والأم – حاضر بين أهله واسرته لكنه غائب!

إمّا باغتراب لأجل وظيفة وعمل، فلا يكاد يجد الوقت الكافي للجلوس مع أولاده ومتابعة نموّهم النفسي والسلوكي، أو حضور لكن بطلاق عاطفي بين الأبوين لا يتشاركان ولا يتعاونون على التربية النفسية والسلوكية للأولاد، بل قد يكون على العكس حين يتخذ أحد الوالدين الأولاد وسيلة لتحريضه ضد والده أو أمه!

وقد تتحوّل التربية في مثل هذا الحضور الغائب إلى نوع من التربية بالرشوة الماديّة فالوالد يحاول أن يعوّض غيابه عن أولاده بالتلبية الماديّ’ لما يطلبون وإغراقهم بذلك على اعتقادٍ منه أن هذا يكفي في صناعة الشخصية السويّة للطفل.

وقد ينتج عن هذا الأمر أيضًا مشكلة تربوية أخرى وهي مشكلة: التباين والتنازع في التربية؛ فالأب يربّي أولاده على سلوكيات فتأتي الأم وتنقضها والعكس كذلك.

4. وسائل التواصل.

وهذه من – بلاء هذا العصر – فالتربية اليوم لم تعد في نظام مغلق لا يتجاوز البيت والمؤسسات المعروفة في التربية كالمدرسة والمسجد، بل صارت التربية اليوم في نظام مفتوح على العالم كله بكل ما فيه من غثٍّ وسمين.

وهي الوسيلة الأهم التي يستغلها الشيطان وأولياؤه اليوم في إفساد البيوت، وهو الوسيلة المتاحة للكل بكل أعمارهم للهروب إليها عندما يكون هناك نوع من عدم الإحساس بالأمان والترابط الأسري، سيما وأن وسائل التواصل اليوم تعتمد على أسلوب الإثارة والإغراء واللقطة السريعة التي تؤثر على مستقبلات الدماغ وتحدث عنده ما يسمى بـ (الإدمان).

الزوج عند أول مشكلة وعند اللامشكلة يهرج لمثل هذه الوسائل لإشباع نزواته والزوجة عندما تتعقد عليها مشكلاتها الزوجيّة تهرب إلى هذا المستنقع الآسن!

والولد بطبيعة الحال سيجد فيه ما يجذبه ويسرقه من والديه!

فلا يلتقي أفراد الأسرة إلاّ على مائدة الطعام التي تتناثر عليها أشكال من الوجبات السريعة!

5. الطلاق.

وهو نتيجة حتميّة لهذا التيه الوالدي والأسري؛ وعلى أنَّ الطلاق شريعة ربّانيّة شرعها الله تعالى لمصلحة العباد، غير أنّ الإشكالية ليست في الطلاق ذاته إنما في عدم التزام أدب الوحي في هذه الشريعة.

فالقرآن حين يذكر قضية الطلاق فإنّه يؤكّد على مراحل من المعالجة  لابد وأن تسبق الطلاق كالوعظ والهجر والضرب – غير المبرّح – وإدخال الحكمين والمصلحين، والأمر بالصّلح وتعظيم أجره وبركته ﴿والصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، ثم لا يكون الطلاق إلاَّ في حالة زمنيّة معينة يقول عنها الفقهاء ( الطّهر الذي لم يجامعها فيه ) ثم الطلاق فيه ثلاث فرص ، ولا يجوز لأحد منهما أن يُلجأ صاحبه في هذه الفرص الثلاث إلى أن يخرج من بيت الزوجيّة ، ثم إنّ البينونة في الفرصة والأولى والثانية لا تحصل إلاّ بعد فترة زمنيّة وهي ﴿ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ وله أن يراجعها في هذه الفترة الزمنيّة ، ولو انقضت هذه الفترة ولم يُراجعها فله أن يتزوجها مرّة أخرى بعقد ومهر جديد ، ولا تكون البينونة الكبرى إلاّ بالطلاق( الثالث ) حتى وإن وقع الطلاق فإنّ الله يأمر أن يكون ذلك بـ ” إحسان ” قال تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾[البقرة:229] كل هذه الآداب والأحكام الغاية منها بقاء عقد الزوجية وإعادة تصحيح المسار بين الزوجين على الحال الذي يكون له الأثر الإيجابي في صناعة الجيل؛ غير أن المشكلة في اتّخاذ البعض الطلاق كوسيلة للانتقام وإثبات الذّات ، وتعظم المشكلة سوءًا حين يتخذ أحدهما الأولاد وسيلة في إشباع غريزة الانتقام والتشفّي . من هنا يكون الطلاق سببًا من أسباب التفكك.

أثر التفكك الأسري على نفسيّة الشاب وسلوكه.

أمر بديهي أن النتائج تتبع مقدماتها، فإذا كان هناك مظاهر للتفكك في الأسرة، فإن ذلك بشكل واضح سينعكس على نفسيات الأفراد وسلوكياتهم، ويظهر هذا على شكل: الانحراف والاضطراب.

والدراسات الاجتماعية، ودراسات الجهات ذات الاختصاص تؤكّد في توصياتها أنَّ: التفكك الأسري سبب رئيس في انحراف الشباب سواء على المستوى النفسي أو السلوكي.

ويُمكن إجمال هذه الآثار في صورتين، ولكل صورة منهما مظاهر:

 الصورة الأولى: العدوانية، وهي تظهر في شكل:

  • الجنوح في السلوك بالتعامل العدواني مع الذات أو مع من حوله، فإمّا تجده قاسيًا على نفسه سواءً في هيئته وشكله وألفاظه ونظافته، أو حتى قاسيا على من حوله لا سيما والديه وإخوانه وأخواته، فلا شيء يردعه لا قيم اجتماعية، ولا قيم شرعيّة لا يرى إلاّ نفسه ونفسه فقط!
  • التخريب والإفساد في الأرض.

ولذلك أغلب من تجدهم يفسدون المرافق العامة والتي وُضعت لمصالح النّاس من شباب عندهم نزعة عدوانيّة تجاه كل شيء مرتب وجميل ونافع

  • القتل.

وهذا من أشنع ما يكون من العدوانيّة في سلوك الشّاب، جنوحه إلى القتل وإتلاف الأرواح.

  • المضاربات والاعتداء على ممتلكات الآخرين.

الصورة الثانيّة: الانهزامية، ومن أهم مظاهرها:

  • الرهاب الاجتماعي.

فيكبر الشّاب وهو ممتلئ بالخوف إمّا من النقد أو اعتداء الآخرين عليه، لذلك هو يتجه نحو سلوك الأمان بالعزلة وتجنّب اللقاءات سواء على مستوى الدراسة أو حتى اللقاءات على مستوى العائلة أو الوظيفة ونحو ذلك.

  • الانهزام الفكري.

فأكثر من يتأثر بالأفكار المنحرفة، شباب في عمر الزّهور كانوا يعيشون نوعًا من التفكك في أسرهم، ولأن وسائل التواصل اليوم تتيح للشخص الهروب إلى عالم غير عالمه، يحرص أصحاب الفكر الضال، والأفكار المنحرفة على اصطياد مثل هذه العينات المنهزمين فكريًّا؛ هو فقط يريد الهروب من واقعه فيقع في هذا الفخ الخبيث. ومن أسوأ هذه الفخاخ (فخّ الإلحاد).

  • الاستسلام للشهوة!

فإنَّ الله تعالى خلق في الإنسان هذه الشهوة كـ (نعمة) يستمتع بها في حدود المشروع، ولأن الشهوة تعطي الإنسان طاقة من الشعور بالسعادة فهي تعتبر مهربًا نفسيًّا للشاب إذا تكالبت عليه الضغوط الأسريّة، فإذا لم يكن الشاب مؤهلًا للزواج وفي ظل هذه الضغوطات وهذا الانفتاح أيضا الذي يسهّل عليه الاستمتاع بالشّهوة.

  • الوقوع في فخ التدخين والمخدرات.

ولأنها أمور تعطي شعورًا بالانفصال عن الواقع والعيش في خيالات ووهم السّعادة، فمن السّهل اصطياد الشّاب المنهك بعلاقة أسرية متفككة.

  • الأمراض الخطيرة والمزمنة.

وبالطبع هذه نتيجة حتمية للانهزام عند الشهوات، فينشأ عن ذلك أمراضًا خطيرة.

وهذا – أعني النفسية العدوانية أو الانهزاميّة – من شأنها أن تصنع شابًّا يكون عالةً على نفسه وأهله ومجتمعه، خطيرًا في سلوكياته تجاه نفسه وتجاه من حوله، وقد يمتدُّ أذاه إلى غيره.

والسؤال المهم في هذا السياق: كيف للشاب المبتلى بأسرةٍ متفككة غير مترابطة أن يتعامل مع واقعه بشكل إيجابي نافعٍ، يحفظ نفسه ويفيد مجتمعه وأمّته؟!

فإنّ وجود المشكلة لا يعني عدم وجود الحل، ووجود الحل لا يعني التهوين من هذه المشكلة.

من أهم ما يعين الشاب على مقاومة هذا التفكك:

1 | أن يدرك الشاب – لا سيما من كان في سنّ التكليف – أنّ وجوده في أسرة غير مترابطة لا يبرر له الخطأ ولا الخطيئة. فالتاريخ والواقع يشهد أن هناك شبابًا أبطالًا نافعين خرجوا من رحم أسرٍ موبوءة بالتفكك والضلال والجهل، أقرأ في ذلك إن شئت قصّة إسلام الصحابي الجليل سلمان الفارسي ؓ. إدراك هذا يعزّز النقطة التالية:

2 | التأكيد على المسؤولية الفرديّة.

مهما كانت النشأة فإنها لا تعني أنها طابعٌ لا يمكن تغييره أو تحسينه، فصلاحك مسؤوليتك أنت ﴿مَن عَمِلَ صالِحا فَلِنَفْسِهِ ومَن أساءَ فَعَلَيْها وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت:46].

3 | الحرص على العلم.

فالمسؤولية تحتاج إرادة والإرادة غذاؤها ووقودها العلم، أن يحرص أشد الحرص على التحصيل العلمي والتركيز على التعلّم.

4 | الارتباط بالمحاضن التربوية.

من خلال المدرسة والمسجد والمراكز الاجتماعية ذات المسؤولية والتي تُعنى بتطوير طاقات الشباب واستثمارها وتوجيهها.

5 | الحرص على استشارة أهل الاختصاص.

وعدم الخجل من ذلك، فإنّك أن تجد مختصًّا يعينك على الطريق خير لك من أن تقف على قارعة الطريق خجلًا خائفًا.

6 | الارتباط بـ الصلاة والقرآن والقراءة في سيرة النّبي .

فإنهم النّجاة والفلاح والسكينة والإيمان؛ من الأهمية بمكان أن يحرص الشاب على التغذية الرّوحيّة، فإنّ الروح إذا جاعت ذبلت. والإنسان إنما هو بروحه إذ الجسد تابع للروح؛ وإنّك لتعجب من قوّة بعض النّاس على ظروف الحياة وتبسّهم لظروف الحياة إذ هم يتعاملون مع الحياة بأرواحهم لا بأجسادهم.

7 | التطوير المهني والمهاري.

فمن الأفكار الجيّدة في رفع مستوى الهدوء النّفسي والرّضا: أن يفرّغ الشاب طاقته الفكرية والسلوكية في تعلّم مهارات مهنيّة ومهارات حياتية يشغل بها وقته وجهده فلا يقع في فخّ الفراغ المهلك.

8 | السعي في التحسين الأسري.

بمعنى أن يفكّر الشاب – باستشارة الخبراء – بأفكار ووسائل تعيد الحياة لأسرته ولو بخطوات بسيطة هادئة، المهم أن يكون هذا الأمر من قائمة أهدافه وطموحه.

9 | الحذر من صحبة السوء.

سواءً في الواقع الافتراضي – وسائل التواصل – أو في الواقع الحقيقي، اجتهد أن تختار الصّديق الصّالح.

فالصّداقة على أنها من أجمل العلاقات في الدنيا، ومن النّعيم العذب في هذه الحياة إلاَّ أنها إذا لم تكن على أساس من الصدق والوضوح والتواصي فإنها تكون وبالًا على المرء.

10 | ألا تكرر المشكلة!

فلو قدّر الله لك ويسّر أن تبدأ حياة زوجيّة، فتعلّم من ماضي حياتك ( الدرس) ولا تكرر نفس المشكلة بالوراثة.. فيكون لذلك أثرًا سلبيًّا على مجتمعك وأمّتك.

تلك عشرة كاملة.. والله المستعان وعليه التكلان؛

[1] الموسوعة الفقهية الكويتية: 4 / 223

[2] ابن العربي | أحكام القرآن: 4 / 105

[3] الخليل بن أحمد الفراهيدي | العين: 4 / 90

منير بن فرحان الصالح

باحث في صناعة الوعي وجودة التفكير

المزيد من المقالات

  • All Posts
  • عام
  • مقالات
  • نشرتنا
هوس الشهرة الرقمية

لم تعد الشهرة حلمًا بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا رقميًا متاحًا لكل من يمتلك جهازًا واتصالًا بالإنترنت. فقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الطموح لدى...

30 أبريل, 2025